مركب الموت الشمالي: رشىً “أمنية” بـ170 ألف دولار
سامر زريق – أساس ميديا
شهادات الناجين القلائل من كارثة مركب المهاجرين، الذي قذفه موج البحر إلى قبالة جزيرة أرواد السورية، وأهالي الضحايا، كلّها تقود إلى هذه الخلاصة. فبالنسبة إليهم لا فرق بين الموت غرقاً أو البقاء في لبنان حيث يخيّم شبح الموت على يوميّاتهم، وكلاهما سيّان.
الملحمة السوداء
تستحقّ قصص مراكب الهجرة أو الفرار بحراً من بلاد الفقر والخراب أنْ توثق رواياتها، لتحكي للأجيال المقبلة عن العذابات والأهوال. وهي في مجملها مغامرة أقرب إلى المقامرة على طريقة لعبة “الروليت” الروسيّة.
فعلى الرغم من خطورة هذه اللعبة، إلّا أنّ احتمال الموت فيها هو 1 على 6 أو 16.667 في المئة، وكذلك حال مراكب هجرة الفرار. غرق مركب واحد لا يعني أنّ الموت هو النهاية الحتميّة لسالكي هذا الدرب الوعر. فهناك الكثير من المراكب التي وصلت إلى مُنتهاها. وهذا ما يشكّل الحافز الأكبر لاستمرار هذه الملحمة السوداء، وسط غطاء أمنيّ، وتشجيع رسميّ.
كارثة مركب الموت الأخير هي الثالثة من نوعها، لكنّها الأكبر والأسوأ على الإطلاق. فقد تجاوز عدد الضحايا عتبة المئة، ومن المرجّح أنْ يستمرّ العدّاد في الارتفاع، وقد يصل إلى قرابة 150 ضحية. وما يزيد من حدّة الألم هو عدم القدرة على تحديد عدد من كانوا على متن المركب، حتّى من المهرّب نفسه. بيد أنّ شهادات الناجين وروايات أهالي المفقودين وجيرانهم تكشف الكثير من أسرار تطوّر ظاهرة مراكب الهجرة، التي وصلت إلى معدّل مركب واحد يوميّاً على الأقلّ خلال فصل الصيف الحالي.
عدوى أحلام وخلاص
تذهب أغلب الروايات والشهادات إلى أنّ الهجرة عبر البحر باتت بمنزلة العدوى التي انتشرت في مجتمعات ومناطق بعينها. ذاك أنّ نجاح أغلب المراكب التي خرجت من الساحل الشمالي في بلوغ البرّ الآخر، سواء كان في إيطاليا أو أيّ وجهة أخرى، زرع الكثير من الآمال لدى آلاف المعدمين والمهمّشين الذين ليس لديهم ما يخسرونه. ولا سيّما أنّ هذه الظاهرة سابقة للأزمة المعيشية في لبنان. وكلّ واحد نجح في الوصول أصبح القدوة لعائلته وأصدقائه وأبناء بيئته، خاصّة عندما يرون تبدّل أحواله الماليّة والمعيشية.
زدْ على ذلك غسل الأدمغة الذي تقوم به شبكات المهرّبين والسماسرة لعقول بعض الفئات، وخصوصاً إغواء الشباب، باتّباع هذا السبيل لأنّه المخرج الوحيد لهم من أزماتهم المتناسلة، طمعاً في المزيد من الأرباح الطائلة. وهذا ما أسهم في إقناع كثيرين، خاصّة عندما يكون المهرّب صاحب “سيرة ذاتية” مميّزة في هذا العالم، ومنهم المهرّب الذي يقف خلف كارثة مركب الموت الأخير.
يقول زين الدّين حمد، وهو أحد الناجين القلائل من المركب الأخير، إنّ المهرّب بلال ديب الملقّب بـ”أبو علي نديم” كان يعمل في البحر، ثمّ بعد بدء موجة الهجرة البحرية تحوّل إلى العمل في هذه التجارة، وسيّر عدداً غير محدود من مراكب الهجرة التي وصلت جميعها إلى مقاصدها من دون أيّ مشاكل. وهو ما صنع له اسماً وصيتاً، وجعله مقصداً لعشرات الراغبين في الهجرة. بيد أنّ ازدهار هذه التجارة أدّى إلى حصول أزمة في المراكب التي تستطيع الوصول إلى الشواطئ الأوروبية. ومن هنا بدأت ترتسم ملامح كارثة مركب طرطوس.
جشع المهربين
جشع المهرّب من جهة، وأزمة المراكب من جهة أخرى، دفعا ديب إلى الاستعانة بمركب لا يصلح للإبحار، وأنْ يحشو فيه الناس حشواً جعل الربّان الفلسطيني أسامة حسن، الذي أُحضر على عجل من مخيّم البارد، يفزع ويرفض قيادته.
وحسب الناجي الآخر الفلسطيني جهاد مشلاوي، فقد حدثت مشادّة كلاميّة بين الربّان والمهرّب وعصبته، سمعها هو لأنّه كان جالساً على سطح المركب، وانتهت بإذعان أسامة لهم بعد قيامهم بتهديده بقتل أبنائه أمام عينيه، إذ كانت معه زوجته وأبناؤه الأربعة. فسار إلى حتفه كما توقّع، ليس هو فقط، بل جميع أفراد عائلته.
يروي الناجيان مشلاوي وحمد أنّ المهرّب قال في محادثة له مع الربّان بعد توقّف المحرّك عن العمل عدّة مرّات نتيجة الوزن الزائد جدّاً، ومطالبة منْ كانوا على متنه بالعودة إلى الشاطئ اللبناني، إنّه دفع 170 ألف دولار رشى لجهات رسمية لإخلاء طريق المركب وعدم التعرّض له حتّى بلوغه المياه الإقليمية. وخوفاً من خسارته هذا المبلغ أجبرهم على الاستمرار في رحلة كان مصيرها يبدو واضحاً للجميع.
السؤال الذي يطرح نفسه: لِمَن ذهب هذا المبلغ الكبير عن مركب واحد، وما بالكم بالحصيلة الإجمالية؟ هذه فضيحة.
لم تُشِرْ بيانات قيادة الجيش إلى موضوع الرشى والتسهيلات لا من قريب ولا من بعيد، بل على العكس ثمّة ارتباك واضح في طريقة التعامل مع القضيّة. في البداية أعلن الجيش إلقاء القبض على المهرّب عقب ساعات قليلة على انتشار خبر غرق المركب، ثمّ سرّب إلى الإعلام أنّ المهرّب كان في قبضة المخابرات قبل وقوع الحادثة، في حين تذرّعت عدّة مصادر أمنيّة بتدنّي قيمة الرواتب لتبرير التقصير.
في هذا السياق، ماذا حلّ بِمَنْ كانوا على متن المركبَيْن اللذيْن تعطّلا قبالة السواحل اليونانية قبل أيّام من الكارثة الأخيرة، وتضاربت الأنباء حول مصيرهما؟ وهل تمّ القبض على من نظّم الرحلتين المذكورتين؟ أفلا يجب على الأقلّ مساءلة المسؤولين عن مراقبة الشواطئ؟
لامبالاة السلطة السياسيّة
أمّا عن السلطة السياسية فحدّث ولا حرج. فبعد مرور أسبوع على الكارثة، تبدو وكأنّها غير معنيّة بما جرى. فعدا عن كون غالبيّة الضحايا من الفلسطينيّين والسوريّين، تشكّل قضية المهاجرين غير الشرعيين مادّة دسمة بالنسبة إليها لابتزاز دول الاتّحاد الأوروبي سياسيّاً وماليّاً. لذلك لا تجد أيّ غضاضة في تشجيع هذه الظاهرة ضمناً، ولا سيّما أنّها ترفع عن كاهلها حملاً زائداً.
وفيما كانت ردّة فعل رئيس الجمهورية على الكارثة أقرب إلى الـ”كليشيه” الذي يُستخدم دائماً عند وقوع الكوارث، كان تيّاره يجرّد تحت إشرافه حملة إعلامية ضخمة، مدعومة بتحرّكات شعبية على الأرض، لإخراج بدري ضاهر من محبسه. من أجل رجل واحد يقوم التيّار الوطني بليّ ذراع القانون والضغط على القضاء، داحضاً بنفسه كلّ مزاعمه عن عدم التدخّل بالقضاء، وأمّا العوائل التي غرقت كلّها، والموقوفون بدون محاكمة قبل بدري ضاهر بسنوات، فلا أهميّة لهم على الإطلاق. وهذا هو الوجه الحقيقيّ للنظام اللبناني. فالمواطنون لم يكونوا يوماً متساوين، وإنّما هم طبقات وفئات، وأدناها، وهي الكبرى، هي تلك التي ينتمي إليها من كانوا على متن قارب طرطوس، ومن سبقوهم.
غير بعيد عن عون ترك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي القضيّة كلّها في عهدة رجل واحد أيضاً هو اللواء محمد الخير رئيس الهيئة العليا للإغاثة كي ينوب عن الدولة بمؤسّساتها وحكومتها التي تجاهل وزراؤها الحادثة تماماً، ما خلا الاتّصالين اللذين أجراهما وزيرا الأشغال والصحة بنظيرَيْهما السوريَّيْن من باب حفظ ماء الوجه لا أكثر.
من جانب آخر، كانت مخزية جدّاً ردّة فعل نوّاب الشمال الأولى والثانية المعنيّين بالكارثة قبل غيرهم، بعكس ما حصل إبّان غرق مركب الموت أواخر نيسان الماضي، عندما سارع كلّ واحد منهم إلى استغلال المأساة لإطلاق مواقف نارية كانت ترمي إلى استقطاب أصوات الناخبين على تخوم الانتخابات النيابية.
بعد كلّ ما سلف، لم يعد السؤال لماذا يهاجرون، بل لماذا يبقون؟ ستمضي أيّام معدودات ويتمّ طي هذا الملفّ وينساه الجميع، وتستمرّ مسيرة الهجرة، وربّما يخرج المهرّب الذي تسبّب بالكارثة، فيعود إلى تجارته في تسيير مراكب الموت، وتبدأ من جديد لعبة “الروليت” الروسيّة التي يبدو أنّها ستستمرّ طويلاً.