مفاوضات فيينا: بين التراجع الأميركي والقلق الصهيوني وتوازن القوى الجديد
} حسن حردان-البناء
ارتفع منسوب القلق في كيان العدو الصهيوني، مع توارد الأنباء عن قرب توصل مفاوضات فيينا الى اتفاق على العودة المتزامنة من قبل الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الالتزام بالاتفاق النووي كما نص عليه عام 2015، وهي الصيغة التي يجري وضع اللمسات الأخيرة عليها وتقضي بأن تقوم واشنطن برفع كلّ العقوبات عن إيران والعودة إلى الالتزام بالاتفاق وتأكد طهران من هذا الالتزام، وفي المقابل تقوم إيران بالعودة عن خطواتها التي اتخذتها بالتخلي عن التزاماتها بموجب الاتفاق، انْ لناحية وقف التخصيب بنسبة 60 بالمئة والعودة إلى التزام نسبة 3,67 بالمئة، أو لناحية السماح لمفتشي وكالة الطاقة الدولية بالعودة الى ممارسة عملهم في مراقبة البرنامج النووي.
هذا التطور أحدث صدمة وقلقاً داخل كيان الاحتلال الصهيوني، وأثار انقساماً في اجتماع الكابينيت، المجلس الوزاري المصغر، حول طريقة التعامل مع هذا التطور الذي اعتبر «إسرائيلياً» بأنه يشكل تنازلاً أميركياً أمام إيران، يلحق الضرر بـ «إسرائيل» وحلفائها من بعض الحكومات العربية… ولهذا حذّرت مجموعة كبيرة من المسؤولين السابقين في الاستخبارات «الإسرائيلية» والجيش وهيئات إنفاذ القانون، بايدن من التسرّع في إبرام اتفاق نووي مع إيران.
المجموعة التي ضمّت 2000 مسؤول رفيع المستوى، قالت في رسالة إلى بايدن، إنّ «التسرّع في التفاوض مع إيران يعرّض «إسرائيل» وحلفاءها العرب الجدد للخطر بشكل مباشر».
وأفاد موقع «واشنطن فري بيكون» أنّ الرسالة التي صاغها «منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي»، تُعدّ إشارة واضحة على أنّ «إسرائيل» وحلفاءها العرب في المنطقة متحدون في معارضة جهود إدارة بايدن للانضمام مرة أخرى إلى الاتفاق النووي. واعتبروا أنّ الاتفاق النووي الإيراني معيب ويعد تهديداً مباشراً للاستقرار الإقليمي…
لكن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
أولاً، لماذا قرّرت واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي كما وقع عام 2015 طالما انه يشكل ضرراً لحلفاء أميركا في المنطقة وفي المقدمة الكيان الصهيوني؟
وثانياً، لماذا يعتبر المسؤولون الصهاينة عودة العمل بالاتفاق النووي يلحق ضرراً بالكيان الصهيوني وحلفائه من الأنظمة العربية؟
وثالثاً، ما هي النتائج التي ستترتب على التوصل لهذا الاتفاق وفق الشروط الإيرانية؟
1 ـ انّ قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن العودة إلى الاتفاق النووي وقبول شروط إيران برفع كامل العقوبات بالتزامن مع عودة طهران للالتزام بالمثل بنصوص الاتفاق، حسب الأنباء الواردة من مفاوضات فيينا، لم يكن ليتمّ لو كان لدى الإدارة خيارات أخرى أفضل… بل انّ واشنطن تقدم على التراجع أمام ايران، حسب ما يرشح من مفاوضات فيينا، نتيجة انسداد الخيارات الأخرى أمامها ووصولها إلى قناعة بأنّ خيار العودة إلى الاتفاق وعدم الاستمرار في محاولات الضغط لتعديله أو تجزئة رفع العقوبات المفروضة على إيران، إنما يشكل أقلّ الخيارات سوءاً بالنسبة للسياسة الأميركية… لماذا؟
لأنّ خيار مواصلة سياسة الحصار والعقوبات لم يعد يجدي نفعاً بعد أن نجحت إيران في إجهاض أهداف الحصار، من خلال:
اعتماد سياسات اقتصادية تنموية عزّزت…
ـ الاكتفاء الذاتي… إقامة علاقات اقتصادية مع دول ترفض سياسة الهيمنة الأميركية، لا سيما روسيا والصين، والتي كان آخرها الاتفاقية الاستراتيجية بين طهران وبكين والتي شكلت ضربة موجعة لسياسة الهيمنة الأميركية وأسقطت الحصار الأميركي على إيران بالضربة القاضية كونها أمّنت لإيران تصدير نفطها بكميات كبيرة ومنتظَمة على مدى 25 سنة واستثمارات صينية في شتى المجالات تناهز الـ 450 مليار دولار، هذا إلى جانب توطيد علاقات التنسيق والتعاون الاقتصادي والأمني مع روسيا وإقامة علاقات اقتصادية مع دول جمهوريات آسيا الوسطى لا سيما، دول جوار بحر قزوين مما أدّى إلى تحرّر إيران من تأثير العلاقات مع الغرب، وأوجد بدائل جديدة تجعل طهران قادرة على تأمين احتياجاتها وتصدير منتجاتها من دون الخضوع للابتزاز الذي تمارسه الدول الغربية…
أما الخيار العسكري فإنّ إدارة بايدن تدرك جيداً بأنه محفوف بالمخاطر الكبيرة على الوجود والمصالح الأميركية في المنطقة وعلى أمن الكيان الصهيوني… بسبب القدرات العسكرية الرادعة التي تملكها إيران وحلفائها في محور المقاومة…
في حين انّ خيار الحرب الأمنية غير المباشرة لتعطيل البرنامج النووي الإيراني لإضعاف موقف طهران وفرض الشروط عليها، لم يحقق أهدافه، بل أدّى إلى نتائج عكسية، حيث ردّت إيران على الهجوم الصهيوني التخريبي الذي استهدف مفاعل «نطنز»، بالعمل سريعاً على وضع جيل جديد متطوّر من أجهزة الطرد المركزي بدلاً من الأجهزة التي تضرّرت، ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 بالمئة إلى 60 بالمئة مما عكس جاهزية إيران للمواجهة ونجاحها في تطوير قدراتها النووية وامتلاكها الاحتياطات اللازمة للتصدي لأيّ استهدافات أمنية للبرنامج النووي… وكان من الطبيعي أن يؤدّي هذا النجاح الإيراني إلى تعزيز موقف إيران ورفع سقف وشروط التفاوض من قبلها مع مجموعة 4 + 1 من ناحية، وانسداد أيّ أفق أمام واشنطن لتحسين شروط عودتها إلى الالتزام بالاتفاق النووي من ناحية ثانية… وبالتالي اضطرارها إلى التراجع وإبداء المرونة أمام إيران بالتخلي عن الرهان لتعديل شروط العودة للاتفاق والقبول بالعودة المتزامنة غير المشروطة المقرونة برفع العقوبات دفعة واحدة كما تطالب طهران…
2 ـ انّ قلق المسؤولين الصهانية من عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي بالشروط التي ترضى إيران، إنما مردّه إلى جملة أسباب:
السبب الأول، إدراك تل أبيب بأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستحقق انتصاراً جديداً في معركتها لتكريس استقلالها والحفاظ على برنامجها النووي والحصول على المنافع الاقتصادية التي ينص عليها الاتفاق من دون إدخال أيّ تعديلات على الاتفاق سعت إليها حكومة بنيامين نتنياهو دون جدوى.. وهذا يعني أنّ إيران الثورة ستصبح في وضع أقوى داخلياً وخارجياً حيث سيتحسّن الوضع الاقتصادي الإيراني بشكل كبير وينعكس ذلك بتحسين قيمة العملة الإيرانية وبالتالي تحسّن الوضعين الاجتماعي والمعيشي للشعب الإيراني الأمر الذي يزيد من التفافه حول قيادته، ويضعف الجهات المرتبطة بالخارج التي كانت تسعى الى استغلال الضائقة الاقتصادية نتيجة الحصار لتأليب الناس ضدّ نظام الجمهورية الإسلامية… ومن الطبيعي انّ تَحسّن الوضع الاقتصادي ومستوى معيشة الشعب سوف ينعكس بتعزيز موقف إيران السياسي واستطراداً دورها على الساحتين الإقليمية والدولية…
السبب الثاني، إدراك المسؤولين الصهيانية أنّ تنامي قوة إيران الاقتصادية واستعادتها لوارداتها النفطية، والاستثمارات الخارجية التي ستحصل في إيران، وارتفاع معدلات النمو في الاقتصاد والدخل على حدّ سواء، سوف تمكن إيران من زيادة قدراتها على دعم حلفائها في محور المقاومة، مما يقوّي من قدراتهم في مواجهة قوى الإرهاب المدعومة أميركياً، ومن الاحتلال الصهيوني…
السبب الثالث، قلق الصهاينة من التحوّل الذي ستحدثه عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي بالشروط الإيرانية، على صعيد موازين القوى الإقليمية، في مصلحة المحور المناهض للهيمنة الأميركية، على حساب المحور الموالي لهذه الهيمنة والذي يضمّ الكيان الصهيوني وحلفاءه من الأنظمة الرجعية التابعة والتي بات يرتبط بعضها باتفاقيات مع كيان العدو… مما يضعف هذه الأنظمة ويجعلها مضطرة إلى التوقف عن مواصلة سياسة العداء لإيران والبحث عن سبل تطبيع العلاقات معها، وفي هذا السياق يمكن وضع الأنباء التي تحدّثت عن بدء حوار سعودي إيراني برعاية عراقية.. والذي تزامن مع الأنباء عن قرب التوصل إلى اتفاق في فيبنا لإعادة العمل بالاتفاق النووي… وتفاقم المأزق السعودي في اليمن بفعل نجاح المقاومة اليمنية في مواصلة توجيه ضربات موجعة القواعد والمنشآت الحيوية العسكرية والنفطية في قلب المملكة.
3 ـ انّ إنجاز الاتفاق بالشروط الإيرانية المدعومة روسياً وصينياً، سوف يكرّس المعادلات الجديدة على الصعيد العالمي، والتي تأتي نتيجة فشل الحروب الأميركية في تحقيق أهدافها لناحية إضعاف إيران وإسقاط الدولة الوطنية السورية والقضاء على قوى المقاومة وإعادة إخضاع العراق للهيمنة الأميركية، وصولاً إلى عزل إيران والعمل على تطويعها، ومحاصرة روسيا والصين، وإحباط تطلعاتهما لإقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب…
انّ إخفاق الحروب الأميركية وفشل أهدافها المذكورة، أدّى إلى خروج دول وقوى محور المقاومة أكثر قوّة وقدرة، والى تعزيز قوة إيران السند الأساسي لهذا المحور، وعودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية كلاعب أساسي انطلاقاً من انتصار سورية ومساهمتها في هذا الانتصار في مواجهة الحرب الإرهابية الكونية التي شنّتها أميركا بوساطة جيوش الإرهاب القاعدي والداعشي…
انّ هذا التحوّل سوف يجعل الكيان الصهيوني محاصراً ببيئة استراتيجية جديدة من محور المقاومة الممتدّ من لبنان مروراً بسورية والعراق وغزة واليمن وصولاً إلى إيران، فيما الولايات المتحدة الداعم الأول للكيان الصهيوني تتراجع هيمنتها في المنطقة وعلى الصعيد الدولي ولم تعد قادرة على شنّ حروب جديدة فيما هي تنسحب مهزومة من أفغانستان بعد أطول حرب خاضتها… واستطراداً فإنّ هذا التحوّل سوف ينعكس بتعزيز موقف روسيا والصين في السعي الى إقامة نظام عالمي جديد يقوم على التعددية القطبية بديلاً عن نظام الهيمنة الأميركي الأحادي القطب.. الذي لم يعد ينسجم مع موازين القوى الجديدة في العالم…