ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

الحريري والتدقيق الجنائي مَنْ يُطيِّر مَنْ؟

منير يونس

ثمة فرضية جدية بأن ينتهي الجدل حول التدقيق الجنائي، كما انتهى إليه مصير “الإبراء المستحيل” الذي “ألّفه” أو ألّف كتابه “تكتل الاصلاح والتغيير” برئاسة الجنرال ميشال عون قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية.

قمة الصراع في ميدان التدقيق في الحسابات المالية للدولة اللبنانية، كانت في 2013، أي عشية انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. ثم إحتدم اثناء الفراغ الرئاسي كأداة سياسية من أدوات تعبيد الطريق أمام وصول العماد عون الى سدة الرئاسة.. والبقية معروفة بتسوية رئاسية دخل فيها تيارا “المستقبل” و”الوطني الحر” في شراكة سياسية وادارية ومالية ونفوذية بعد وضع “الإبراء المستحيل” على الرف، لينصرف “المتصالحون” الى ما هو أهم، أي المحاصصة.

*

تناول كتاب “الإبراء المستحيل” الحقبة الحريرية السابقة بإتهامات خطيرة أبرزها انفاق 250 ألف مليار ليرة خلال عقدين من الزمن من دون رقابة، ما فتح المجال للإسراف والتبذير السياسي والمافيوي. إنفاق بلا مستندات. فقدان 451 حوالة و2810 شيكات. موازنات لم تقدم ضمن المهل الدستورية منذ 1993 بعد تصفير الحسابات السابقة لتلك السنة المفصلية. “قطوعات” حسابات بين 1993 و2003 أقرت بتحفظ لعدم البت بصحتها وسلامة التدقيق فيها، او وجود ملاحظات لديوان المحاسبة  عليها، علماً بأن موازنات 10 سنوات بين 2001 و2011 لم تقدم الى الديوان وفقاً للأصول، والقطوعات الحسابية المقدمة بين 2004 و2010 لا ترقى الى تسميتها كذلك، وفقاً للمعايير المحاسبية السليمة. جرى حديث أيضاً عن مبلغ 11 مليار دولار ضائع مسؤول عنه وزير المالية الذي صار رئيساً للحكومة، اي فؤاد السنيورة. مضبطة الإتهام العونية سألت عن ضياع 900 مليون دولار في قطاع الهاتف الخلوي. تطرقت إلى زيادة الدين العام، الانفاق العشوائي بسلفات خزينة. قدّم التيار العوني لأفرقاء سياسيين آخرين مادة دسمة كانوا يستخدمونها في معاركهم المتقطعة مع تيار المستقبل. مثلما فعل حزب الله بين حين وآخر، حتى أن أمينه العام السيد حسن نصرالله  قال في خطبة له العام الماضي ان ذلك مقدمة لمحاربة الفساد، وان القضية لا تقف عند 11 مليار دولار بل تتعداها الى مبالغ اخرى. وكلف النائب حسن فضل الله بتكوين ملفات عن فساد وفاسدين باتت “مستنداتها” بحوزة القضاء ولكن لا حياة لمن تنادي!

*

بعد التسوية الرئاسية في 2016، فوجئ التياران (الأزرق والبرتقالي)  بحدثين لم يخطرا ببالهما يوماً: الغضب السعودي على سعد الحريري إلى حد إعتقاله (خريف 2017)؛ ثورة 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2019 الأولى من نوعها في تاريخ لبنان. كانت النتيجة أن الحريري إستقال بضغط الشارع، وولدت حكومة حسان دياب التي أقرت التدقيق الجنائي بضغط من ميشال عون، لكن حكومة دياب إنفجرت بإنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس الماضي.

أما وقد عاد الحريري رافضاً تجديد التسوية السابقة مع جبران باسيل، فان التيار العوني يستحضر اليوم التدقيق الجنائي، ليشهره بوجه الحريري، كما فعل سابقا مع “الإبراء المستحيل”. فقد خصص رئيس الجمهورية جزءاً من كلمته، الأربعاء الماضي، لهذا التدقيق، واصفاً إياه بالتجربة الرائدة وأهم اجراء لمكافحة الفساد والفاسدين. أكد ان هدفه معرفة أسباب الإنهيار وتحديد المسؤولين عنه، وهو منطلق الاصلاحات لإزاحة الفاسدين. ولم ينس الرئيس عون اطلاق الاتهامات باتجاه من يعتقد انهم يعترضون على التدقيق ويسعون لتعطيله او يناورون لافشاله، مُلوّحاً بأن نجاح التدقيق يعني امكان إنسحابه على كل الوزارات والمجالس والصناديق والهيئات واللجان والشركات المختلطة.

في الجهة المقابلة، جدّد سعد الحريري دعمه لحاكم مصرف لبنان علناً في المقابلة التي أجراها معه الزميل مارسيل غانم بتاريخ 8 تشرين الاول/ اكتوبر والتي قدّم فيها اوراق اعتماد ترشيحه مجدداً لرئاسة الحكومة. وكان لافتاً للإنتباه في تلك المقابلة شبه انكار لما قاله الرئيس الفرنسي عن القطاع المصرفي اللبناني، خصوصاً مسؤولية مصرف لبنان عن الهرم الاحتيالي الذي ضيّع ودائع اللبنانيين. وعندما ركز الزميل غانم على ما قاله ماكرون أدار الحريري الأذن الطرشاء، لا بل عبّر، بطريقة ما، أن ماكرون لم يقل ذلك!

*

يصر ميشال عون على ادخال التدقيق الجنائي في البيان الوزاري لحكومة الحريري، وكذلك سيطالب بإزالة المعوقات القانونية التي تحول دون اتمامه، لا سيما نص المادة 151 من قانون النقد والتسليف التي تلزم كل شخص ينتمي او كان انتمى الى المصرف المركزي، بأية صفة كانت، بعدم افشاء اي معلومات استحصل عليها من خلال وظيفته (موجب سر المهنة)

ذلك التدقيق الجنائي العتيد يقف اليوم عند مفترق طرق لأسباب أبرزها الآتي:

أولاً، سيطرح التدقيق الجنائي، بين جملة ملفات أخرى، على طاولة التفاوض بين الحريري وجبران باسيل، على قاعدة معروفة سلفاً ومجربة سابقا مثلما حصل مع “الإبراء المستحيل”. لكن الحريري لن يعطي باسيل ما يريده لأن التدقيق كما يسير حالياً لن يتجاوز أطر الدراسة الأولية العامة، بعدما اصطدم بحواجز خاصة بالسرية المصرفية وقانون النقد والتسليف. فالمستندات التي يحصل عليها المدققون لا ترقى الى أن تشكّل مضبطة تدقيق جنائي. فما هو مطروح حاليا، إذا لم تنسحب الشركة من المهمة، هو وضع خيارات امام الحكومة اذا ارادت الذهاب بعيدا في حقل الألغام المحاسبي.

ثانياً، يُرسل إنسحاب شركة “الفاريز آند مرسال” من مهمتها اشارة سلبية بالغة الخطورة الى الجهات الدولية المستعدة لتمويل انقاذ لبنان من الإنهيار. لذا فان سعد الحريري أمام ساعة حقيقة في هذا الملف الشائك الذي لا يريده، ويعرف ان شركاء آخرين له في السلطة لا يريدونه أيضاً ويعرف في الوقت نفسه، أن ميشال عون مستعد للإطاحة بأية حكومة إذا لم تتبنى هذا التدقيق!

ثالثاً، لا بد من التدقيق الجنائي، بشكل أو بآخر، لأنه ورقة من أوراق تحديد الخسائر. وهنا ملف معقد آخر سيكون فيه الحريري محرجاً جداً اذا تحملت المصارف جزءاً غير بسيط من تلك الخسائر لأنها أساءت تقدير المخاطر عندما أقرضت دولة مفلسة، وأودعت في مصرف لبنان ودائع الناس التي ذهبت أيضاً الى تمويل دولة مفلسة منذ زمن وفقا لتقارير وكالات التصنيف الائتماني العالمية، من دون أن يبادر مصرف لبنان المركزي إلى ضرب يده على الطاولة ويهدّد بوقف تمويل العجز والهدر والفساد.

رابعاً، لا يمكن لسعد الحريري التضحية برياض سلامة حاليا لأنه من رجالات المرحلة، كما كان منذ 1993! ولإثبات ذلك من جديد، لم يتوان سلامة عن إهداء الحريري نزول الدولار وتعزيز سعر صرف الليرة 30 في المائة في أسابيع قليلة، وهو القادر على تطويل أمد دعم المحروقات والأدوية والطحين وبعض السلع والمواد الاخرى حتى تصل الحكومة الى اتفاق مع صندوق النقد ويبدأ ضخ الدولارات الدولية في شرايين الإقتصاد المنهار.

خامساً، سيقول سعد الحريري للمتمسكين بأهداب التدقيق: تريدون فضائح مالية تعمّق أزمتنا أم ترغبون بدولارات طازجة تنقذنا وتنقذ نموذجنا؟ وفي هذا التحدي ما يصعب الأمر على المناورين مع مرور الوقت واقتراب الارتطام الكبير.

سادساً، في أهداف التدقيق دراسة لحركة الودائع خلال فترة الهندسات المالية في 2016، واحتمال حصول افراد أو شركات وجهات مشبوهة على إفادة  منها. وهنا لرياض سلامة رواية تفصيلية رواها لكل السياسيين وأركان السلطة عن الاضطرار لتلك الهندسات عندما جفّ الدولار في فترات الفراغ الرئاسي والاهتزاز الأمني، وانها كانت عمليات لشراء الوقت للنظام برمته. اما مسألة اساءة استخدام السيولة التي في مصرف لبنان وعلاقتها بالتحويلات الى الخارج والمستفيدين من تلك التحويلات، فان سلامة سيرد شركة التدقيق والمتطاولين عليه في هذا الملف الى مشروع “الكابيتال كونترول” المحبوس في أدراج المجلس النيابي.

سابعاً، ان تهديد الرئيس عون بتعميم تجربة التدقيق على الوزارات وصناديق المهجرين والاغاثة والجنوب ومجلس الانماء والاعمار والهيئات العامة الاخرى “يفتح ابواب جهنم على كل البلاد ويهدد بحرب أهلية”، حسب مطلعين على عمل بعض المؤسسات والهيئات منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا. واذا كانت ثورة شعبية عجزت عن زحزحة النظام الطائفي، فان تقارير محاسبية لن تفعل شيئاً.

ثامناً، شكل عقد التدقيق الجنائي مادة سجال سياسي، لكن من يُدقق ببنود العقد يدرك أنه إنعكاس للواقع السياسي ـ الدستوري، ذلك أن قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية، لا يمكن تجاوزهما بعقد بين الدولة اللبنانية وشركة خاصة، كما أن حاكم مصرف لبنان تعمد تجاهل العقد، وعندما حان موعد التنفيذ، أبلغ الحكومة أنه ليس هو من وقع العقد وبالتالي ليس مُلزماً بالتنفيذ وأنه سيلتزم بمندرجات القانون تحت طائلة محاسبة من يخالفها، وفي ذلك تهديد مبطن لكل من يتجاوز النصوص التي تحمي عمل مصرف لبنان!

تاسعاً، برغم ذلك كله، يصر ميشال عون على ادخال التدقيق الجنائي في البيان الوزاري لحكومة الحريري، وكذلك سيطالب بإزالة المعوقات القانونية التي تحول دون اتمامه، لا سيما نص المادة 151 من قانون النقد والتسليف التي تلزم كل شخص ينتمي او كان انتمى الى المصرف المركزي، بأية صفة كانت، بعدم افشاء اي معلومات استحصل عليها من خلال وظيفته (موجب سر المهنة) وكتم السر المنصوص عنه في قانون السرية المصرفية لعام 1956، وبالتالي فان المضي بالتدقيق الجنائي بطريقة صحيحة وقانونية يستلزم ابطال مفعول المواد التي تشكل عائقًا للعملية، وهنا تصبح الكرة أيضاً ليس في ملعب الحكومة بل في ملعب المجلس النيابي.

عاشراً، اذا اصر الرئيس عون على التدقيق الجنائي، كما يراه هو، سيجد بالمرصاد من يفتح ملف الكهرباء وهدر 40 مليار دولار في قطاع لم تعالج فيه الانقطاعات يوما منذ تسلمه من باسيل والوزراء العونيين اللاحقين.

إن تجربة الأسابيع الماضية بين شركة “الفاريز آند مرسال” التي تتولى مهمة التدقيق وبين فريق مصرف لبنان المركزي لا تشي بأية إيجابية. لقد رفض حاكم مصرف لبنان مجرد إعطاء مكتب صغير للشركة في مبنى المصرف المركزي في الصنائع. كما أن تجربة الدفعة الأولى من الإستسفارات الستين كانت نتيجتها مخيبة للآمال. لم تنسحب الشركة لكنها قررت إمهال المصرف المركزي لمدة أسبوعين (حتى الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر مبدئياً)، فإذا كانت الأجوبة التي ستتلقاها شبيهة بالدفعة الأولى، معنى ذلك أن الشركة ستعتذر عن متابعة مهمتها قبل أن تنجز حكومة سعد الحريري بيانها الوزاري وقبل أن تنال الثقة النيابية في مجلس النواب!

تجدر الاشارة الى انه اذا احتدم الخلاف، سيذهب البعض المغامر الى طرح  التدقيق في حساب خزينة الدولة والحساب 36 لدى مصرف لبنان لمعرفة كيفية صرف الاموال عموماً، وذلك على قاعدة “عليَّ وعلى أعدائي يا رب”، فيما لسان حال رياض سلامة أن المستهدف من التدقيق الجنائي ليس هو شخصياً بل كل أهل الطبقة السياسية الذين يحتمون خلفه ولا يكاد يُستثنى أحدٌ منهم. ماذا عن موقف فرنسا من التدقيق الجنائي وكيف سيتصرف الحريري في هذه الحالة؟

هذا الأمر يحتاج إلى مقاربة مستقلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى