ردّاً على فحص وقصير: الجنون “الهويّاتي” لن يتلبنن
وأنا مثل لبنانيين كثيرين، لست من أصحاب الأفكار المسبقة أو الدوغمائيات. فحتّى مؤتمر الدوحة بعد احتلال بيروت عام 2008 التمستُ فيه أملاً بتغيير سياسات الحزب تجاه الداخل الوطني ما دام قد حقّق “كلّ” مبتغياته فيما حسبتُ. وبالطبع، وطوال ثماني سنوات وأكثر، أثبت الحزب أنّه لم يتغير، بل ازدادت سياساته فداحةً وكارثيةً على لبنان وعلى سورية وعلى العراق والبحرين الكويت… واليمن والعالم. وجاء الجنرال عون عام 2016 ليردَّ الجميل للحزب وسائر معصوميه، فحباه شرعية السلاح إلى “نهاية أزمة الشرق الأوسط”، كما قال.
وما قصّر سعد الحريري الذي يحمل على كتفيه العريضين أعباء الاستشهاد واحتلال بيروت وإسقاط حكومته عام 2011، ليقول مثل عون إنّ سلاح الحزب إقليمي وإنّ الحزب لا يستخدم سلاحه بالداخل. وكان من حسن الطالع أنّه لم يُضف لذلك ما أضافه الجنرال: إنّ الجيش ضعيف وإنّه (أي الرئيس وبالتأكيد لسنا نحن) محتاج لسلاح الحزب لردع إسرائيل.
المهم، وبلا طول سيرة: عندما أقبل الحزب بقضّه وقضيضه على التفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود، وبوساطة مَنْ؟ بوساطة الشيطان الأكبر الأميركي، قلتُ لنفسي وزملائي المسيحيين، كما نقول نحن في الجبل: “ما بقى بدّها، قوموا تَنهنّي”. وقد زادنا يقيناً باقتراب نهاية أدوار الحزب الإقليمية وتكليفه الجهادي (بلغة أهل ولاية الفقيه) ذلك التنافس الشديد بين آل عون وآل الثنائي على الإفادة من المفاوضات التي عيّروا العرب على القيام بمثلها ووضعوهم تحت سابع أرض، من أجل خليفة الرئيس، بل ولاتّقاء شرّ العقوبات بعد التصدُّق بعامر فاخوري وذويه. أما قادة الحزب فاستغربوا جداً هذه المساعي وقالوا: لقد قاتلنا أربعين سنة للوصول إلى هذه اللحظة الملائمة للحديث الودود مع الشيطان الأكبر، وأنتم تريدون الآن سلْبها منّا، بحجّة السيادة والرئاسة، ويا للعجب: أَولسنا نحن صُنّاع الرئاسة والسيادة، ورحم الله مار مخايل وكلّ القديسين. أولم يقل باسيل إنّ المعصوم قدّيس؟ فكيف تشكِّكون في نزاهة القداسة التي لن تنساكم بالطبع. تصوّروا مجيء يوم قريب نكون نحن فيه الذين نتوسّط لكم عند الولايات المتحدة.
وعلى كلّ حال، ما هدّأ من حماستنا، بسبب إقبال المعصومين على التفاوض، غير التفكير بالثمن أو المقابل: الأثمان التي تريدها إيران معروفة وتحتاج في تفاصيلها إلى وقت طويل، إنّما ما هي الأثمان التي يريدها الحزب من لبنان؟
قال لي صديق لا يُهمُّهُ غير الخلاص من السلاح: “سيأخذون الغاز، ويبقى معهم السلاح بدون “الصواريخ الدقيقة” ليستمروا في حكمنا به”. وقال آخر كثير التشكك: “الذي أخشاه أن يغيّروا النظام اللبناني بالدستور وبالمناصب العليا (مثل قائد الجيش، وحاكم المصرف المركزي، ولماذا لا يكون هناك نائب للرئيس؟)، ويستمرّون في حكمنا بالإفقار والاقتصاد المشرقي، وتحالف الأقليات، كما فعل آل الأسد ويفعلون مع السوريين منذ خمسين عاماً.
وتصنّعْتُ الحكمة والاستراتيجية البعيدة، فقلت: منذ تسعينات القرن الماضي ما عاد لدى الحزب هدف استراتيجي غير خدمة المصالح الإيرانية من لبنان، شأن الميليشيات الأُخرى التي كوَّنوها بالتدريج في الدول العربية، وبحسب ظروف كل بلد. ولذلك كانت كل خطوات الحزب في لبنان ومنذ العام 2000 تسير نحو هذا الهدف: من الاغتيالات، وإلى إقفال المجلس النيابي، وإلى احتلال بيروت، وإلى تجاوُز ما حصلوا عليه في مؤتمر الدوحة، وإلى إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011، والتدخل العسكري في سورية. وكلُّ ذلك كان تحت مظلّة المقاومة والممانعة وقتال العدوّ، وضرورة ذلك من أجل حرية الحركة والتسلُّح وشبكة الهاتف الخاصّ وأخذ المطار والمرفأ فضلاً عن الحدود مع سورية لتحقيق ذلك الهدف. ثم أضافوا هدفاً آخر علنياً أعطاهم إيّاه أيضاً الجنرال: مكافحة الإرهاب دفاعاً عن أمن لبنان الداخلي. مع أنّ الحزب المقاوم مضى إلى سورية لقتلهم ومنعهم من دخول لبنان. وعندما نفدت مهمة الإرهاب في سورية قبل لبنان، تبين أنّ الذين دخلوا من وطاويط الإرهاب الفظيع لا يزيدون على الثلاثمائة، وأخرجهم الحزب بالتعاون مع النظام السوري بباصات مكيّفة، رغم استعدادات الجيش والأميركيين لحربٍ هائلةٍ طويلة الأمد، ولشدّة إرهابيتهم انضمّ أكثرهم لميليشيات النظام السوري.
ولنعد إلى ما بدأنا به. ثارت تساؤلاتنا مع بدء مفاوضات ترسيم الحدود بشأن مصائر لبنان على وقع مصائر المقاومة العظيمة فيما بين إقليم التفاح والأرجنتين، وما هي الأثمان التي يجب دفْعُها لاستغناء حزب المقاومة عن سلاحه، وعودة الحزب وأنصاره إلى الحياة الطبيعية في البلاد التي لم تعد طبيعية. وعلى وقع هذه التساؤلات كتب الزميل حسن فحص مقالته التي بشّرنا أنّها ستكون “سلسلة” عن اللبننة التي ينبغي أن تكون المسار الجديد ومتطلّباتها. وكانت هناك سلاسل وحبالٌ من مسد قد كُتبت من جانب زملاء آخرين تفيد بالمعنى نفسه، وانطلاقاً من ثوران المفتي الشيعي أحمد قبلان قبل مدّة على الميثاق الوطني وعلى الدستور وعلى الاستعمار.. إلخ.
من زمان، وربما من أواخر التسعينات جرى الحديث عن “فائض القوة” التي يشعر بها الحزب ومُشايعوه، وأنّه لكي تستمرّ مسيرة المقاومة العظيمة فلا بد من الاستيلاء على كل شيء، كما سبق ذكره. إنّما الآن والحرب مع العدوّ صارت مستحيلة، حتّى لو لم ينجح السلام من خلال الترسيم، فإلى ماذا يحتاج الحزب ومشايعوه، لكي يرفعوا السلاح ووهجه عن رقاب اللبنانيين ورؤوسهم؟
هناك مطلبان ذكرناهما من قبل، وتحدّث عنهما الحزبيون بين فترةٍ وأُخرى، ثم سكتوا عن الحديث عنهما علناً، بعد أن شغلوا بال المسلمين بصرخات: “شيعة شيعة”، وموتورسيكلات الليل، وشغلوا بال المسيحيين بحركات الرئيس برّي الذي ما عاد عنده همّ غير اشتراع اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة في القريب العاجل.
أما المطلبان من أجل اللبننة فهما: إمّا إعطاء الشيعة مناصب كبرى بالدولة مثل قيادة الجيش أو حاكم المصرف المركزي أو اختراع نائب لرئيس الجمهورية، إضافةً لوزارة المالية التي حصلوا عليها، أو الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي، كما سمّاه المرجع من سنوات لتغيير كل شيء، والدستور أوّل الأشياء أو الأمور. وفي الحالتين يثير ذلك المزيد من المشكلات المستعصية التي ما أمكن التصدي بالتوافق لما هو أقلّ منها بكثير.
فالمؤتمر التأسيسي ينقض الطائف الذي أجمع عليه اللبنانيون، وهو مثل العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه الفلاسفة والسياسيون منذ القرن السابع عشر. فالدستور يمكن تعديله، لكنْ لا يمكن نسْفُهُ ولا تغيير فلسفته. وكلُّ الشرعية اللبنانية في نظر العرب والعالم قائمةٌ عليه، ومقدمته بالذات، كما على القرارات الدولية. وإذا عدنا إلى الحساسيات الطائفية الدقيقة، فالذين لن يوافقوا على تغيير الدستور من أجل الاشتراع لصالح طائفة غالبة، هم كلّ السنة، وعقلاء كثيرون من المسيحيين والدروز والشيعة. فالعقد الاجتماعي يحصل مرةً واحدة، وكذلك الإجماع الوطني الكبير المستند للعيش المشترك. ولهذا فالتفكير بهذا الشكل تعجيز، وبالطبع يمكن أن يحصل بالسلاح، كما في الأنظمة الديكتاتورية العربية وغيرها (للنظر في تعديلات الدستور الروسي هذه الأيام).
فلنذهب إلى الحلّ أو المقترح الثاني، وهو إعطاء مناصب كبرى ضامنة للحقوق ولحسْم التأثير في القضايا الوطنية الكبرى. في العرف المغتَصَب حصل الشيعة على وزارة المالية، وما سلّم لهم بها أحدٌ بعد، ومستندهم في الاستيلاء مثل مستندهم في سائر المرافق: وهجُ السلاح والقدرة على تعطيل الحياة العامة. ولنفترض أنّهم أُعطوا هذه المناصب، فهذا يعني أخذها من المسيحيين. وحتّى اليوم، بعد ثلاثين عاماً على الطائف، ما يزال العونيون وغيرهم يطالبون بالعودة لما قبل الطائف من أجل صلاحيات الرئيس. المسيحيون يعتبرون هذه المناصب الكبرى ضمانة وجود وفعالية، فماذا سيقول لهم المسلمون وليس الشيعة منهم فقط إذا أخذوا منهم هذه المناصب؟
سيزدادون سخطاً وانكماشاً وهجرة. ثم وبصراحة: كان اللبنانيون جميعاً قبل عهد باسيل يعتبرون وجود مسيحي ذي كفاية في أي منصب ضمانةً أكبر من وجود المسلم. وحده جبران باسيل هو الذي غيَّر هذا الانطباع، وتساوى في سياساته تجاه الإدارة العامة، والدبلوماسية، والقضاء، وسائر المرافق التي استولى عليها، مع أدنى المستويات، فصار أكثر سوءًا من حزبيي المسلمين وزعانفهم، وما أكثرهم.
هذان المقترحان أو هاتان الفكرتان، لتجلية “فائض القوة” وإحقاق تأثيرها في طبيعة النظام أو إدارة الدولة، عسيرتان جداً، إن لم تكونا من المستحيلات.
لكن في أي ظروفٍ وسياقات يمكن الحوار عليهما أو على ما هو أَولى: الحوار على تطبيق الدستور الذي لا يذكره أحد غير أفراد معدودين، تتصاعد السخرية عليهم من الشباب قبل الشيوخ كلما قالوا شيئاً من هذا القبيل؟
الجلوس على الطاولة من أجل الحوار على أي شيء هو ممكن في حالتين فقط: حالة توقيع المغلوب على أوراقٍ يفرضها عليه الغالب، وحالة الفرقاء الأنداد المتساوين أو الذين هناك توازُنٌ من نوعٍ ما بينهم. ولا توازن ولا ندية عندما تأتي برشاشك أو صاروخك الدقيق معك وتضعه أمامك على طاولة (الحوار). كم تحاور اللبنانيون في العقدين الماضيين وعلى قضايا غير مصيرية باستثناء السلاح، وكان الحوار كأنّه ما كان. قلت هذا كلَّه للزميل قاسم قصير قبل قرابة العام لكنّه أصرَّ على الدعوة إلى “الحوار من أجل الحوار”.
ولنلتفت إلى مسألةٍ مهمةٍ وأخيرةٍ في هذا الاستطلاع. في كلّ هذا النقاش نتعامل مع الحزب كأنّه حزب ديمقراطي أو حتّى طائفي، وهمَّه كسب الطائفة أو النفوذ فيها مثلما يفعل العونيون أو القوات. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق. منطق المتساهلين مع الحزب، حتّى من غير الشيعة، أن الحزب براغماتي ويعرف حجمه وإمكانياته، كما يعرف الظروف والسياقات، وما يُستطاع ولا يُستطاع. وستضطرّه الظروف الجديدة إلى توطية السقف. وهذا كلّه غير دقيق إن لم يكن غير صحيح. قبل أيّام قرأت تصريحاً لأحد كبار الحزب هو السيد هاشم صفي الدين، قال فيه إنّه لا يزال يتحسب لحربٍ يمكن أن تقع أو يخوضها الحزب ضدّ إسرائيل، كما قال إنّهم يسلكون مع مجتمعهم مسلك “التكافل”. والطريف أنّه “اعترف” بأنّ إسرائيل تتجنّب الحرب أو تقودها بأساليب أُخرى.
وأنا أصدّقه في الأمرين: التكافل والتضامن (داخل الطائفة لتسهيل العيش في الظروف الاستثنائية)، وأمر الحرب. فإسرئيل يمكن أن تتجنّب الحرب، أما هو الحزب العقائدي، والذي كان يريد ترسيم الحدود، ما يعني اعترافاً بالدولة العبرية، مضطرّ للكلام الدائم (الذي قد يؤمن به هو نفسه) عن الحرب التي تقتضيها عقائديته، وتقتضيها تربية أربعين عاماً على التحشّد والتطيّف والتمذهب والانفصال عن الآخر بالداخل، فكيف بالخارج؟
البراغماتية تستطيعها إيران، لكن لا تستطيعها ميليشياتها في لبنان وسورية والعراق واليمن والبحرين.. إلخ. وإلى ذلك نبّهنا وضاح شرارة في كتابه: “دولة حزب الله” (1994). ولستُ أعني بذلك أنّ شيعة لبنان صاروا كتلةً واحدةً مثل القنبلة الضخمة المتفجّرة. هذا التصوّر بعيد عن الواقع. فعندما أراد زعيم الحزب إقناع شباب حزب الله بالقتال في سورية ضدّ جيرانهم على الحدود عام 2012، خاض حرباً هائلةً بالخطابات والبلاغات: “إن لم تتصدّوا للإرهابيين السنّة فإنّهم سيغزون السيدة زينب والنجف وكربلاء وقم، لإزالة شيعة آل البيت من الوجود”. وكان بعض المخاطبين يخاطبه سراً بالطبع: “ماذا تقصد يا سيد؟ نحن نستطيع أكل” أهل القصير” بلقمةٍ واحدة، لكنْ لماذا؟ فبالأمس كنّا نتبادل معهم تهريب الدخان والممنوعات، وبالأمس كنّا نشرب النارجيلة في ساحة بلدتهم”. لكنّها عقائدية صُنعت بإحكام عبر عقود عدّة، كما يحدث من جانب القيادات الكاريزماتية في الحروب والأزمات. إنّه الجنون الهوياتي. وإذا أُريد العودة عنه فهو يحتاج إلى زمن طويل، وإلى أن تقوم القيادة الصانعة بنقض غَزْلها أنكاثاً، إما بسبب هزيمة ساحقة، أو بسبب انتصارٍ ساحق. والأقرب والأهون أن يزعم القادة الفاطميون والزينبيون وعصابات أهل الحق، وأنصار الله، والعزّة الإلهية، أنّهم حقّقوا كلّ أهداف ومتطلبات “زمن الظهور”، أي الانتصار الكامل. وعندها عسى أن نستفيد نحن اللبنانيين إذا كانت دولتنا ما تزال موجودة، ولم يكن معظمنا قد مات أو هاجر. أما الآن وبحسب فهمي للعقائديات والنشوريات والمهدويات، فسيظل الافتراس مستولياً، وتتلقّاه العامة باشتهاء ودونما اكتفاء، وعلى حساب الدولة والنظام والاستقرار والعيش المشترك. وفي هذا الوقت الذي يعتبرون فيه أنفسهم مُهادنين وشديدي الإحساس بالمسوؤلية، سيظلّ الخطاب مرتفعاً ضدّ العدو الأميركي، والعدو الصهيوني، وعيونهم علينا وليس عليه، لأنّ هناك كما يقول السيد: “قواعد اشتباك يعرفها الطرفان”. وهي تقتضي اليوم التفاوض على الترسيم، بانتظار ما تأتي به التوجهات المرشدية. وخلال ذلك كلّه يظلّ الحديث عن السلاح محرَّماً، وتكون كنده الخطيب أكبر خَرقٍ لجبهة المقاومة التي تصل إلى ما وراء وراء وما بعد حيفا، لكنّها تتوقف للاستراحة عند مرفأ بيروت ومطارها، ولن تغادرهما بسهولة.
وعندما نكون حالمين مع السنة الجديدة بظروفٍ أفضل، يكون مدرِّبو الحزب وعقائديوه منشغلين بدراسة الدستور الإيراني وليس اللبناني، والذي يعطي المرشد صلاحيات: “إعداد الظروف لاستمرارية الثورة داخل البلاد وخارجها”، و” مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم”.
أوَلَسنا نحن أيّها الإلهيون، وأليس الشعب الإيراني، من شعوب العالم التي تستحقّ التضامن؟
يبدو أننا وأنهم لسنا وليسوا من العالم: {والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.