لبنان والسعودية: إنقاذ ما يمكن إنقاذه
بعد المقاطعة الخليجية للبنان، دبلوماسياً واقتصادياً (الى حد أقل)، في أعقاب تصريحات وزير الاعلام اللبناني جورج القرداحي في شأن حرب اليمن خلال برنامج تلفزيوني شبابي، بات ضرورياً علينا فهم النقلة النوعية في العلاقة مع الخليج وتحديداً السعودية، وتبعاتها الاقتصادية والسياسية، والبناء عليها، بعيداً عن النقاش العقيم حول الكرامة الوطنية، ورد الفعل وغير ذلك.
بداية، هذا التصدع في علاقات لبنان بدول الخليج العربي، ليس منفصلاً عن سياق الصراع السياسي في الإقليم ولبنان كذلك. ذاك أن لـ”حزب الله” مشروعاً لاعادة بناء العلاقات الخارجية للبنان، يجمع بين العلاقات “المميزة” مع سوريا وايران والعراق من جهة، وبين روابط اقتصادية وتنموية مع الصين، من جهة ثانية. هذه الخطة غير الواقعية، عنوانها إبقاء لبنان رهينة القرارات الاستراتيجية في ايران، أكان لجهة العداء مع واشنطن ودول عربية، والتفاوض معها على صفقات إقليمية، أو تعزيز العلاقة الاستراتيجية مع الصين (نظرياً، رغم أن الواقع يشي بعكس ذلك).
لهذا يصب هذا التصدع والتراجع في العلاقات مع الخليج العربي، في مصلحة التنظيم وخطته أو رؤيته، وبإمكاننا اعتبار عدم الاستقالة والتجاوب مبكراً مع غضب الرياض، سياسة في هذا الاتجاه، بعيداً عن محاولة احتواء الأزمة.
ايران، ومن خلال التنظيم وشبكته، استخدمت الأراضي اللبنانية مقراً سياسياً واعلامياً لنشاطها في اليمن، بدءاً بتحالفها الوجيز مع الرئيس الجنوب يمني السابق علي سالم البيض، وانتهاء بمقر تلفزيون جماعة الحوثي، وغيرها من المشاريع. بغض النظر عن صحة الاتهامات بتدريب مقاتلي الحوثي أو عدمها، كانت الأراضي اللبنانية مقراً لنشاطٍ معادٍ لدول مهمة اقتصادياً واستراتيجياً للبنان. وهذا مسار طويل الأمد، كانت الأزمة مع رئيس الوزراء السابق سعد الحريري (وقف التمويل ومن ثم احتجازه) أحد وجوهها، مروراً بأزمة حبوب المخدرات، وانتهاء بالذروة مع تصريح القرداحي.
بإمكاننا رؤية المسألة من زاوية أخرى: كتلتا مصالح اقتصادية. هناك في لبنان بضع عشرات الآلاف ممن يتقاضون رواتب الحد الأدنى (بالمعايير السابقة) من ايران. في مقابلهم، كتلة من مئات الآلاف تعود على البلد والاقتصاد، بعائدات أعلى بكثير، عشرات الأضعاف بأقل تقدير. إلا أن الكتلة الأولى هي الأقدر على تحديد مسار السياسة الخارجية بما يخدم مصالح مموليها، في حين لا قدرة سياسية للكتلة المقابلة.
ما سبق أيضاً مرتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان. ذاك أن لبنان في واقعه الحالي، وحاجته الدائمة للمساعدات الإنسانية (من الغرب والعالم العربي كذلك)، ليس نداً للسعودية وحلفائها في دول الخليج. لا بل هو يعتمد عليها في توفير الوظائف لجيل الشباب، وأيضاً في بيع الخدمات والمنتجات الزراعية وغيرها. صحيح أن الرياض لم تعد مهتمة بتوفير المساعدات، لكن العلاقات الاقتصادية معها ذات أهمية بالغة للبلد. إذن، هي علاقات استراتيجية وحساسة للجانب اللبناني، وبالتالي فإن أي خلل فيها قد يتحول الى أزمة اقتصادية ومالية. وللسعودية قدرات لم تلجأ اليها للآن، مثل وقف التحويلات الى لبنان، وتجميد الرحلات واكمال وفرض طوق اقتصادي-مالي، علاوة على الضغط لاستقالة وزراء محسوبين على حلفاء سابقين للمملكة. كل هذه الوقائع يجب أن تدخل في الحسابات اللبنانية في صنع رد الفعل الرسمي، بعيداً عن الشعبوية والكلام الفارغ عن كرامة وطنية لدى شعب بات يعتاش على المساعدات الإنسانية نتيجة الخيارات الخاطئة والفساد المستشري.
في المقابل، من الضروري على السلطات اللبنانية، أو ما تبقى منها خارج دائرة نفوذ “حزب الله”، موازنة العلاقة مع دول الخليج من خلال الاستفادة من الاهتمام الغربي بالاستقرار (ليس كرمى لعيون لبنان أو حباً فيه، بل لتجنب أزمة لجوء وساحة نزاع أخرى في منطقة مزدحمة بالصراعات والتصدعات الأهلية).
والدور الغربي هنا قادر على إيجاد حل وسط (استقالة الوزير أو مراقبة أشد للحدود لوقف شحنات المخدرات أو احتوائها، أو إجراءات مشابهة في مجالات أخرى)، ذاك أن الاتجاه الحالي هو أقرب لمعركة كسر عظم، وفقاً لمقولة إن لبنان بأسره “حزب الله”، وبالتالي مواجهة التنظيم تقتضي ضرب أسس الدولة (أو ما تبقى منها)، عبر انهيار كامل.
بقاء الدولة ومحاولة إرساء حل وسط لهذه الأزمة، هو الضرورة القصوى، بعيداً عن الانهيار الشامل أو السقوط الكامل في المحور الإيراني. هناك دول ديموقراطية وكبرى تتخذ إجراءات لحفظ مصالحها في العلاقات الخارجية (مثال بريطانيا في علاقتها مع واشنطن أو السعودية، إذ أسقطت تحقيقات قضائية بدعوى المصلحة الوطنية)، فما بالكم ببلد مثل لبنان أغلب سكانه صار فقيراً.
اتركوا الكرامة التي تفتقدونها جميعاً جانباً، وفكروا بمصلحة مواطنيكم لتجنب تدمير ما تبقى.