تحقيقات - ملفات

بين تداعيات قرار “أوبك+” واتفاق الترسيم اللبناني – الإسرائيلي… مشهد سوريالي في المنطقة

المصدر: النهار العربي
رياض قهوجي  
شهدت الأيام الأخيرة تطورين مهمين: الأول، رد الفعل الغاضب للمسؤولين الأميركيين ضد السعودية لموافقتها على قرار مجموعة “أوبك+” خفض انتاج النفط ما أدى الى ارتفاع الأسعار، والذي اعتبرته واشنطن دعماً من الرياض لروسيا في الحرب على أوكرانيا كون ارتفاع أسعار النفط سيزيد من مداخيل موسكو ويساعدها في تخطي تبعات العقوبات الاقتصادية الغربية، والإنفاق على المجهود الحربي.
التطور الثاني، كان الجهد الأميركي – الفرنسي المشترك الذي أنتج اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ما سيتيح لإسرائيل أن تبدأ عمليات استخراج الغاز من حقل كاريش لمساعدة أوروبا في تخطي أزمة الغاز التي ولدتها المقاطعة لروسيا بسبب حرب أوكرانيا. فهذا الاتفاق ما كان ليتم من دون موافقة “حزب الله” الذي يتحرك ضمن الفلك الإيراني. وفي الوقت الذي ينتقد فيه الرئيس الأميركي جو بايدن القيادة السعودية على موقفها من تخفيض إنتاج النفط ويتوعدها بخطوات عقابية وانتقامية، بادر بايدن وللمرة الأولى إلى الاتصال بالرئيس اللبناني ميشال عون بعد مقاطعة الإدارة الأميركية له طوال فترة عهده، ليثني على موقفه وموافقته على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
على الرغم من أن التطورين يختلفان عن بعضهما، إلا أن ما يجمعهما هو موضوع الطاقة وتأثيرات الحرب الأوكرانية. فإيران العضو في “أوبك” والتي كانت تضغط لتخفيض الانتاج من أجل رفع الأسعار، إلا أنها من جهة أخرى، لم تمانع، وربما شجعت “حزب الله” للموافقة على اتفاق ترسيم الحدود البحرية. وهذا يطرح علامات استفهام كثيرة على ماذا ستجنيه إيران من هذه الخطوة، أو كيف ستنعكس عليها مستقبلاً خصوصاً في ملف مفاوضات فيينا المتوقفة؟
المشهد السوريالي في كل هذا، أن الرئيس الأميركي ينتقد ويهاجم ما يفترض أن يكون حليفه الاستراتيجي، أي السعودية، وفي الوقت عينه يثني على قيادة لبنانية متهمة من جهات عدة في الغرب بتبعيتها لإيران أو أقله بمراعاتها لمصالح طهران. بل أكثر من ذلك، يعكس هذا الاتفاق تمكّن فرنسا من جر أميركا إلى المصادقة على دور “حزب الله” المهيمن على الساحة اللبنانية واعتباره قوة أمر واقع براغماتية تستطيع مراعاة مصالح الغرب اذا ما دعت الحاجة.
من المؤكد أن هذين التطورين سيؤثران في لبنان والمنطقة بشكل كبير وفي أكثر من صعيد. فهناك إمكان أن يؤثر التباعد السعودي – الأميركي اذا ما تفاقم، على التنسيق بين الطرفين ومع فرنسا حول موضوع الانتخابات الرئاسية اللبنانية وتشكيل الحكومة. فقد نشهد دعماً فرنسياً – أميركياً لخيارات تناسب “حزب الله” وإيران في المرحلة المقبلة ما سيؤثر كثيراً في أي اهتمام للرياض بإعادة تفعيل دورها في لبنان. فأي خلاف بين القوى الدولية الداعمة لما يسمى بأحزاب 14 آذار (مارس) أو المعارضة، سيكون حتماً من مصلحة قوى الثامن من آذار بقيادة “حزب الله”. ومن المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة تعويم الحكومة الحالية تمهيداً لانتخاب رئيس يرضى عنه “حزب الله” ويوصف بـ”التوافقي”.
ستحدد الانتخابات الإسرائيلية المقبلة مسار الأمور إقليمياً. فإذا ما أنتجت أغلبية لليمين تمكّن بنيامين نتنياهو من ترؤس الحكومة المقبلة، فإن اتفاق ترسيم الحدود قد يشهد انتكاسة خصوصاً اذا لم تقم حكومة ليبيد الحالية بالتصويت عليه ومصادقته في الكنيست. فصعود اليمين في إسرائيل سيؤثر في خطط الإدارة الأميركية الديموقراطية في المنطقة، وتحديداً في تعاملها مع إيران. أما اذا تمكنت قوى اليسار الإسرائيلي من الفوز، فالأمور ستستمر في مسارها الحالي لا سيما على مستوى التنسيق مع واشنطن وباريس حول لبنان والمنطقة. وتشير الاستطلاعات الحالية إلى تقدم قوى اليمين في الانتخابات الإسرائيلية مطلع الشهر المقبل.
ستصعّب عودة نتنياهو توقيع أي اتفاق مع إيران. كما أن الانتخابات التشريعية النصفية في الولايات المتحدة ستؤثر في قدرة الإدارة الأميركية تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية، خصوصاً اذا ما فقد الحزب الديموقراطي الأكثرية في الكونغرس أو مجلس الشيوخ أو كلاهما. فالأوضاع الاقتصادية الصعبة نتيجة التضخم الأميركي- العالمي سترخي بثقلها على تصويت الناخب الأميركي، وهذا ما ضاعف من حجم غضب بايدن على الموقف السعودي في اجتماع “أوبك+”، إذ إن هناك جهات أميركية من داخل الحزب الديموقراطي تتهم السعودية بدعم الجمهوريين والسعي لإعادتهم للسلطة في واشنطن، وهو أمر تنفيه الرياض.
يبدو أن هناك استمرارية لحالة انفصام الشخصية في القيادة الأميركية، إذ إن القرارات ما زالت تؤخذ لخدمة مصالح حزبية – انتخابية قصيرة المدى من دون أفق استراتيجي ما يجعلها على صدام متكرر مع معظم حلفائها. وفي وقت تضاعف القيادة العسكرية الأميركية من وجودها وتحركاتها في المنطقة للحد من نشاطات “الحرس الثوري” الإيراني وميليشياته، ينادي بعض أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين بسحب القوات الأميركية من السعودية ووقف صفقات الأسلحة معها التي تدر مليارات الدولارات على الاقتصاد الأميركي والذي هو بحاجة ماسة لها. كيف يمكن لأميركا أن توقف تمدد النفوذ الصيني في المنطقة مع اتّباعها سياسة سلبية بهذا الشكل مع قوة أقليمية مؤثرة مثل السعودية؟
يبدو أن التفاهم القديم بين أميركا والسعودية والقائم على معادلة “أسعار نفط مضبوطة مقابل الأمن” قد انتهت أو باتت بحاجة الى تعديل. فالمتغيرات الكبيرة على الساحة الدولية منذ انتهاء الحرب الباردة باتت تحتم وضع إطار جديد لأمن الخليج والشرق الأوسط. فالانقسام الأيديولوجي الأفقي داخل أميركا بين المحافظين والليبراليين يعقد علاقة دول المنطقة والعالم مع واشنطن التي تتغير مواقفها وسياساتها مع تغيّر كل رئيس. وهذه التغييرات لم تعد ثانوية أو طفيفة بل لها أبعاد استراتيجية لا تتحملها قوى صغيرة ومتوسطة.
وتشكل الحرب في أوكرانيا اليوم عامل ضغط إضافي على علاقة الغرب بشكل عام مع باقي دول العالم، اذ إن الحرب أخذت طابعاً قومياً عقائدياً بين روسيا وأوروبا – الأنظمة الاستبدادية ضد الليبرالية الديموقراطية. كما أن أميركا والغرب يخوضان حرب هيمنة مع الصين عالمية. وعليه، فإن مساحة المنطقة الرمادية التي يمكن أن تلعب ضمنها الدول التي لا تريد أن تكون طرفاً، باتت ضيقة جداً، عليها أن تختار أي طرف ستؤيد. ولذلك، فمن الأجدى إعادة إحياء حركة عدم الانحياز التي تُمكن اعضاءها من التعاطف مع أحد الطرفين وإنشاء علاقة جيدة معه، إنما من دون أن تكون طرفاً في الصراع القائم بينهما. فوجود مجموعة عدم الانحياز كمنظمة دولية تحدد أهدافها وشرط العضوية فيها ستعطي الدول الأعضاء مساحة من الحرية للتعامل مع طرفي الصراع من دون أن تعتبر حليفاً لأي منهما. وهذا يتطابق مع مفاهيم الحوكمة العالمية القائمة على احترام التعددية والمنظمات الدولية. فالضياع والضبابية اللذين تشهدهما الساحة الإقليمية اليوم سيفسحان المجال لظهور حالات شاذة وغير منطقية سياسياً وتبقيانها عرضة لخضات قد تؤدي لعواقب وخيمة وغير محسوبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى