لكل بطريرك… “إبن صُبحا”
“ليبانون ديبايت” – بولس عيسى
لا شك في أن بكركي تمكّنت في أسوأ مرحلة تمرّ بها البلاد من إعادة إحياء الحياة السياسية الوطنية، بعيداً عن الرتابة التي كنّا نشهدها في الفترة الأخيرة، لناحية أن الإنقسام السياسي لطالما كان موجوداً على الصعيد الإستراتيجي، إلا أنه كان غير متبلور بشكل واضح بسبب غياب المشروع أولاً، والإصطفاف والإلتزام بهذا المشروع ثانياً.
الا أن غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وعلى ما اعتاد أسلافه القيام به، تمكّن من التقاط اللحظة السياسية للدفع باتجاه استكمال المشروع الإستراتيجي التاريخي، الذي تُجمع عليه أغلبية الشعب اللبناني، وهو قيام لبنان الدولة القويّة الحرّة، السيّدة والمستقلّة، الأمر الذي بطبيعة الحال لم يَرُق لبعض الأفرقاء السياسيين في البلاد، فانبروا لصدّه، ومنهم من ذهب باتجاه الهجوم المباشر على بكركي بشكل علني كــ”حزب الله”، أما الآخرون، كـ”التيار الوطني الحر”، فضّلوا الركون إلى طرق غير مباشرة.
لذا، هناك تساؤلات كبيرة حول حركيّة “التيار الوطني الحر” السياسية في الآونة الأخيرة، خصوصاً لناحية ما قام به رئيسه النائب جبران باسيل مؤخراً، من خلال توجيه مذكّرة للحبر الأعظم البابا فرنسيس عبر السفير البابوي في لبنان، الأمر الذي يُعَدّ بشكل واضح تخطّياً لمرجعيّة بكركي ودورها. فلماذا هذا التوقيت بالذات؟ وما هو الهدف الكامن وراء الرسالة؟ وهل يقوم باسيل بتنفيذ أمر مهمّة أُعطي له للإلتفاف على بكركي، ومحاولة فرملة تقدّم البطريرك الراعي ومسعاه لعقد مؤتمر دولي من شأنه إنقاذ لبنان، عبر تثبيت السيادة والحريّة فيه وتحييده عن الصراعات الإقليمية؟
في هذا الإطار، أكّدت أوساط سياسية، أن ما لا شك فيه، أن توقيت توجيه المذكّرة مريب ومشبوه، خصوصاً بعدما تمكّن البطريرك من إعادة الفرز في البلاد على أساس مشروعين سياسيين واضحي المعالم، وليس على أساس طائفي، الأمر الذي كان يدفع باتجاهه “التيار” في معركة تأليف الحكومة تحت شعار “حقوق المسيحيين”، وهو ما أفقده ورقة كان يعوّل عليها كثيراً في هذه المعركة.
ورأت الأوساط، أن زيارة وفد “التيار” إلى بكركي، وبالطريقة التي حاول تسويقها إعلامياً، تؤكد أنها لـ”رَفع عَتب” لا أكثر ولا أقلّ، وأتت من أجل الحفاظ على ماء الوجه، ولتجنُّب الدخول في مواجهة مفتوحة وعلانيّة مع من “أُعطي مجد لبنان”، لن تؤدي إلاّ إلى المزيد من الخسائر الشعبية والتقهقر بالنسبة لـ”التيار” المتهاوي على هذا الصعيد منذ اندلاع ثورة 17 تشرين.
وشدّدت الأوساط، على أن محاولة “التيار” تبرير المذكرة إعلاميّاً بأنها في إطار التكامل مع مواقف البطريرك، لا يدلّ سوى على وضع هذا الفريق الصعب جداً في هذه المرحلة، والذي يجبره على الذهاب إلى تبريرات تفتقد إلى أبسط قواعد المنطق. فإذا كانت فعلاً هذه المذكّرة تتوافق مع مواقف البطريرك، إذاً لا حاجة من إرسالها إلى الحبر الأعظم، خصوصاً في ظل المعلومات المؤكدة والموثوقة عن التوافق الكامل ما بين مواقف البطريركية والكرسي الرسولي. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أن المعلومات التي تتردّد عن أن المذكّرة تأتي على نقيض من مواقف البطريرك هي صحيحة.
أما بالنسبة للأهداف الكامنة من وراء إقدام “التيار” على هذه الخطوة، فقد اعتبرت الأوساط، أن هناك خمسة أهداف لها:
– الهدف الأول: القول للبطريرك بوضوح “أنت تخطيّت مرجعيّة بعبدا بالتوجّه إلى المجتمع الدولي، وها نحن نتخطى مرجعتيك للتوجّه إلى مرجعيّة الفاتيكان”، فما لا شك فيه هو أن العهد يرى في دعوة الراعي إلى مؤتمر دولي، تجاوزاً لمرجعيته وبناءً على سياسة “النكاية” التي أكثر من يتقنها في لبنان هو “التيار” قام بهذه الخطوة.
– الهدف الثاني: محاولة تعطيل أي اندفاعة فاتيكانية دعماً لدعوة بكركي تنتهي بعقد المؤتمر الدولي المنشود، ويرجّح أن يكون قد أقدم “التيار” على هذه الخطوة بناءً على أمر مهمّة مستعجل من “حزب الله”.
– الهدف الثالث: تكرار تجربة المحاولات الإلتفافيّة التي كان يتولاها النظام السوري عن طريق أزلامه من المسيحيين في لبنان، بالتوجّه إلى الفاتيكان لتطويق مثلّث الرحمات البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، في معركته لاستعادة الإستقلال، حيث تحوّل “حزب الله” إلى النظام السوري، و”التيار الوطني الحرّ” إلى مسيحيي ذاك النظام.
– الهدف الرابع: تزويد الفاتيكان بمقاربة سياسيّة أخرى بغرض التشويش على موقف بكركي السياسي النابع من ثوابت الكنيسة المارونيّة التاريخية بغية إبطال مفعوله، ومحاولة التلطّي خلف الشرعية التمثيلية لأصحاب هذه المذكرة رئاسياً ونيابياً، في محاولة لحرف أنظار الحبر الأعظم عن الخطر الحقيقي المحدق بلبنان والمسيحيّين.
وفي حين يسلّط البطريرك الضوء على الخطر المتأتّي من عدم تطبيق الدستور والقوانين والإنغماس في “أتون” النار في المنطقة، الأمر الذي يظهر ضرورة قصوى في استعادة الدولة لسيادتها من أجل صون مبدأ الحريّة والمساواة في لبنان، وتطبيق سياسة الحياد، فإن جلّ ما يريده أصحاب المذكّرة، الإبقاء على الوضع الراهن للحفاظ على مكاسبهم السلطويّة التي لا علاقة لها بـ”حقوق المسيحيين”، فبهذه المكاسب بالذات تمكّنوا من احتكار السلطة وأوصلوا البلد إلى الإنهيار.
– الهدف الخامس: الطلب من البابا فرنسيس أن يساهم في فكّ الحصار الدولي والعربي المفروض على لبنان اليوم جراء الأكثريّة الحاكمة المستأثرة بالسلطة، وذلك في محاولة لتعويم لبنان على الطريقة القديمة، إنقاذاً لأفشل عهد في تاريخ لبنان. فهم يريدون أن تتدفّق الأموال عليهم خلافاً للتوجّه الدولي الذي يربط المساعدات بالإصلاحات، والتي يأتي تطبيقها متناقضاً مع توجّه العهد و”حزب الله”.
وتساءلت الأوساط، عما إذا كان قد سأل العهد نفسه، لماذا قرّرت بكركي اللجوء إلى المرجعيّة الدولية، ومتى؟ باعتبار أن البطريرك لم يلجأ إلى الأمم المتحدة إلا بعدما لَمَسَ، “لَمس اليد”، أنّ المرجعية المحليّة تقود لبنان إلى الإنفجار الإجتماعي، وأنّه لم يعد باليد حيلة لفرملة الإنهيار المتمادي سوى مناشدة المجتمع الدولي.
وأوضحت الأوساط، أنه يحب ألا تكون بكركي في موقع المتفاجئ إزاء ما يقوم به “التيار الوطني الحر”، وتحديداً النائب جبران باسيل، باعتبار أن التاريخ يكرّر نفسه مع اختلاف اللاعبين، فمن “إبن الصُبحا” إلى جبران باسيل، تاريخ حافل بتجارب مماثلة للتي يحاول “التيار الوطني الحر” القيام بها اليوم، وجميعها انتهت بانتصار البطاركة الذين “أُعطوا مجد لبنان”.
وختمت الأوساط، مؤكدةً أن “التيار الوطني الحر” أصبح مكشوفاً اليوم مسيحياً في ظل ابتعاده عن مرجعيّة بكركي، التي تعلم تماماً مدى ارتهانه الكامل لمشروع “حزب الله”. وإلى جانب هذا الإنكشاف المسيحي، فـهو منكشف وطنياً وشعبياً وعربياً ودولياً، ولم يعد لديه ما يخسره، لذا يضع كل آماله في أن ينتصر حليفه في المواجهة، علّ المنتصر يأذن له أن يلبس “الباش يانس” الأبيض.
ـ “إبن الصُبحا” ماروني ذَكَرَه المؤرّخون الموارنة، بمعرض تأريخهم لنهاية الفترة الصليبية، وبداية المرحلة المملوكية، بأنه تعاون مع المماليك لغزو بلدته جبّة بشرّي في العام 1283.