تحقيقات - ملفات

أهل الثمانية وأربعين … خير ذخرٍ لفلسطين


عبد الله أمين خبير أمني واستراتيجي

تأبى فلسطين إلا أن تفاجئنا بإبداعها وأبنائها واجتراح المعجزات وضخ روح الأمل في هذه الأمة ، في الوقت الذي ينظر البعيد عنها لها ولأبنائها ؛ كل أبنائها في جميع مدنها وقراها ، من غزة جنوباً إلى القدس ونابلس وسطاً إلى اللد ويافا وحيفا وعكا وصفد شمالاً على أنهم مغلوبون على أمرهم ؛ فمن لم يحاصره القريب قبل البعيد ، قضى بعض أبناء جلدته بعلاقاتهم غير السوية مع المحتل على آماله في التحرير أو النهوض ، أما البقية الباقية فقيل عنهم أنهم ( اسمترأوا ) المحتل والاحتلال ؛ كيف لا وبعض أبنائهم يخدم في صفوف جنوده ويصلون إلى أعلى المراتب ؛ قادة وضباطاً ويكلفون قمع أهلهم ، بل ويحاربون في الخط الأمامي ضد أبناء جلدتهم . ولكن يأبى الله أن تبقى الصورة على ما هي عليه ؛ فها هي فلسطين ،كل فلسطين من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها ، هبتْ هبةَ رجل واحد في الدفاع عن الأقصى ، فأُلقي الحمل على غزة ومقاومتها لنصرة القدس وأهلها ، ولما تحولت النار من القدس إلى غزة ؛ هبت فلسطين بمدنها وقراها لنصرة غزة وأهلها ، وما في هذا من أمر مستغرب ، ولكن المفاجئ للجميع ـ أتحدى أن يكون أحد توقع ذلك بمن فيهم قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ـ أن تهب مدن وقرى فلسطين المحتلة عام 1948 لنصرة غزة والتخذيل عنها وسحب جزء من القدرات الأمنية والعسكرية من خط الجبهة مع غزة للعمل على تهدئة اللد وأم النور وغيرها من المدن التي قال العدو أن جزءاً منها قد خرج عن السيطرة وأنه بحاجة إلى تهدئتها إن كان يريد أن يتفرغ إلى صُداع غزة . لقد كنا ــ كما غيرنا ــ نراهن على تشابك الجبهات الخارجية وتعاضدها في وجه هذا المحتل من أجل كسر شوكته واشغاله في أكثر من مكان إن كنا نريد أن نؤلمه ونوجه له ضربة موجعة تجعله يحسب حساباً لكل عمل أو إجراء يريد أن يقدم عليه ، وكنا نقول أن هذا العدو لا يمكن أن يقاتل على أكثر من جبهة فينتصر ، وأنه ما تجرع طعم الهزيمة في حرب رمضان المجيدة عام 1973 إلا عندما تضافرت الجهود المصرية مع الجهود السورية ، وكنا أيضاً نقول أن هذه الجبهات الخارجية جاءها ما يشغلها ، والمشغول لا يشغل ؛ فلبنان مشغولٌ بمآسيه الداخلية ، وسوريا أكلت الحرب منها كل خير فيها ، ومصر مشغولة (بعدو) صنعته لنفسها بنفسها ، أما الأردن فلا يقتربن منها أحد !!! لماذا ؟ لا ندري !!! ثم كانت هبة القدس الأخيرة ومعركة (سيف القدس) لتقول لنا نحن الفلسطينيين : ما حك جلدك غير ظفرك ، فتول أنت جميع أمرك . نعم جاءنا النصر والمدد والفزعة من حيث لا نحتسب ، وجاءت عدونا الضربة من حيث لا يتوقع ، نعم ، إنهم 1.930.000 فلسطيني منتشرون على طول بلادنا العزيزة وعرضها ، من أقصى شمالها حيث الجليل إلى المثلث إلى أقصى الجنوب حيث بئر السبع بنخوة أهله ورجولتهم وشهامتهم ، وفي مدننا من صفد إلى عكا فيافا وحيفا والرملة وغيرها من مدن وقرى . إنَ أخشى ما يخشاه أي قائد دولة ، سياسياً كان أم عسكرياً عندما يقرر أن يخوض غمار حربٍ أن يفعّل عدوه من جند من بني جلدته وأهل بلده من ضعاف النفوس ، فيقع هذا القائد بين فكي كماشة طوابير العدو التي يقاتلها على خط الجبهة ، وطابوره ـ طابور العدو ــ الخامس الذي سهر عليه وبناه ونمّا قدرته وحدد دوره وترك تشغيله إلى الوقت المناسب ، إن من يواجه مثل هذا الموقف ، مهزوم لا محالة وخائبٌ ما في ذلك شك . وحيث أننا نتحدث عن أهلنا وأناسنا في مناطق الثمانية وأربعين كذخر استراتيجي لمعركة التحرير القادمة لا محالة ، وحتى لا نغرق في التفاؤل ولا نفطن لعلائق خيلنا عند الغارة ، كان لابد لنا وفي خضم متابعتنا لمعركة (سيف القدس) وما يدور في غزة والقدس أن نسلط الضوء على بطولات أهلنا هناك خلف الخط الأخضر ، لنقول أن دورهم المطلوب والمعول عليه يجب أن تتم مناقشته والتنظير له وتحويل الأماني منه إلى رؤى وأفعال وإجراءات الآن قبل الغد ، لتتحول هذه الطاقة الكامنة في تلك المناطق إلى طاقة حركية تفجيرية ، يثمر فعلها وتؤتي أكلها ، إثخاناً في العدو عند كل معركة من معاركنا معه ، إلى حين قضاء ربنا أمراً كان مفعولاً ، لذلك كانت هذه المقالة التي تهدف إلى تسليط الضوء على ما يمكن أن تقوم به هذه (القوات) خلف خطوط العدو وداخله ، وما يتطلبه مسار بنائها ورفع جاهزيتها من متطلبات مادية وإدارية ، فتصبح بالتعب عليها والسهر على رفع كفاءتها وجاهزيتها ، الذخر الاستراتيجي الحقيقي الذي يعول عليه عند الحاجة ليقوم مقام القوات العاملة في الجهد الثانوي الذي يساند الجهد الرئيسي في حرب التحرير ، فنقول أن ما هو متصور لمثل هذه (القوات) من مهمات يمكن أن يكون على النحو الآتي :

  1. إرباك الجبهة الداخلية للعدو : إن أول ما يمكن أن يتصور من مهام لهذه ( القوات ) هو إرباك الجبهة الداخلية للعدو ، فهو ــ العدو ــ وباعتراف أغلب مسؤوليه يواجه معضلة في عدم جاهزية الجبهة الداخلية للتصدي لأي عدوان خارجي أو قصف صاروخي أو عمليات عسكرية ، هذا وضعها إن لم تكن هناك عمليات إرباك داخلي ؛ فما بالنا إن صاحب عدم الجاهزية هذه عمليات إرباك من قبيل قطع الطرق أو إسقاط منظومات الخدمات العامة من ماء وكهرباء واتصالات على مختلف أشكالها السلكية واللاسلكية ، ألن يشل العدو وتضرب شبكة أعصابه من حيث لا يحتسب ولا يتوقع ؟ ألن يتطلب منه إعادة السيطرة على ما فقد من جغرافيا أو مرافق ، أن يشغّل قدرات مادية وبشرية هو في أشد الحاجة لها للتشغيل في مقابل جبهاته الساخنة ؟
  2. إعاقة قوات العدو الأمنية منها والعسكرية : هذا العدو لا يملك قوات عسكرية عاملة قادرة على الانتشار على كامل الجغرافيات وفي جميع مناطق المسؤولية أو العمليات ، الأمر الذي يدفعه للمناورة في ما يمكن من قدرات ونقلها من جغرافيا إلى أخرى ، وبأسرع وقت ممكن ، وشبكة طرق العدو الموصلة بين مختلف الجبهات هي نفس شبكة الطرق التي يتحرك عليها المدنيون بمركباتهم ووسائل نقلهم ، فما الذي يمنع أن تتعطل شاحنة أو مجموعة شاحنات على محور من محاور التنقل أو الحركة ، ومن الذي يقدر على منع أحدهم من سكب برميل من زيت السيارات على مفترق طرق أو منعطف من المنعطفات ، ليوقف تقدم قافلة العدو المحملة بالقدرات القتالية أو مواد الدعم اللوجستيه عدة ساعات ، المقاومة في أشد الحاجة لها ــ ساعات التوقف ـ لتلتقط أنفاسها ، والعدو بحاجة لكل ثانية أن لا تضيع منه ليستثمر (نصراً ) هنا أو إنجازاً هناك .
  3. الإنذار المبكر على نوايا العدو وإجراءاته ــ جهد معلوماتي ــ : فالمقاومة بحاجة لأي معلومة عن العدو ونواياه وأين يتحرك وكيف يتحرك ، وما هي القدرات المنتشرة وأين تنتشر ، وما هو أثر عملياتها التي تقوم بها ضد هذا العدو، ومَن أفضل ممن يسكن بين ظهراني هذا العدو ليقدم هذا الكنز من المعلومات ؟ أليست المعلومات هي عين القوات ؟ فكيف بنا إن كنا نملك آلاف الأعين التي تريد من يقول لها على ماذا تركز وعن أي شيء تبحث . إن تفعيل هذه العيون سيجعل كل رصاصة تطلق وكل صاروخ يطّير؛ ذكياً في مساره قاتلاً في إصابته .
  4. عمليات الاستنزاف والارهاق ، الأمنية والعسكرية والاجتماعية : هذه مهمة عظيمة الأهمية ، فمجتمع العدو مجتمع يبحث عن الرفاهية وراحة البال ، وهم ما جاؤوا واستوطنوا بلدنا إلا بحثاً عن سمن وعسل وعدوا به ، فإن تحولت حياتهم إلى جحيم وتعب وارهاق ، فسيغادرون ، نعم يمكن أن يتحول مجموع أهلنا في الداخل إلى عامل استنزاف وإرهاق للمؤسسة الأمنية والعسكرية والاجتماعية ، يقلقون راحتهم بكثرة البلاغات والاتصالات وإفساد وسائل الراحة والرفاهية ؛ من الحديقة المنزلية إلى المجمعات التجارية ، ولضبط هذه الأمور من جديد ؛ العدو بحاجة للأجهزة الأمنية والعسكرية ، وهنا المقصد والهدف ؛ إشغال هذه الأجهزة عن أصل مهمتها .
  5. عمليات الإسناد الناري : كما يتصور من أهلنا في الداخل أن يقدموا الإسناد الناري للمقاومة ، فمناطقنا خلف الخط الأخضر تعج بالسلاح ووسائل القتل والدمار ، ويمكن أن يعاد توجيهها إلى صدر العدو ، فتقتله من مسافة صفر ( وتنعفه ) من على بعد متر ، إن المقاومة تبذل كل طاقتها وتوجه كل مواردها من أجل امتلاك السلاح ( بعيد ) المدى الذي يصل العدو ،دقيق التصويب بحيث لا يخطئ هدفه ، عظيم الأثر فلا يبقي ولا يذر ، هذا كله مقدر ومطلوب ؛ ولكن يجب أن لا ننسى أن لنا في الداخل قدرات قتالية قادرة على تحقيق تلك الثلاثية بأقل الإمكانات المادية والفكرية .
  6. إيقاع الخسائر المادية والبشرية في صفوف العدو : وهنا أيضاً يمكن تحقيق الكثير ، مع أن القليل منه يربك ويفرض نفسه على المشهد بكل ثقله ، فقتيل هنا وجريح هناك وتخريب هنا وتدمير هناك ، مع الحرص على عدم ترك الأثر والبصمات ، كل هذا مفيد ويشغل العدو عن أصل مهمته على خط الجبهة ، فقدراته ليست مطلقة ، ولضبط الوضع في الداخل ؛ هو مجبر على سحب قدرات من الخطوط الأمامية ، حتى لو قلت هذه القدرات ، ففي سحبها من أمام المقاومة الكثير من الخيرات .

إن كان هذا ما يمكن أن يُتصور من مهام لهذه ( القوات ) في الداخل ، فما هي المتطلبات التي تقع على عاتق قيادة المقاومة أو الحركة التي تريد أن تستثمر في هذه القدرات ، فترفع جاهزيتها وتشد من عضدها وتمدها بالعلوم والمعارف والتجارب والخبرات ، في أوقات السلم والدعة والراحة ، لتكون ــ (القوات ) ذات أثر فاعل وتشكل تهديداً ذا مصداقية على العدو عند الملمات ؟ إن بعض ما هو مطلوب يمكن أن يجمل بما يلي :

  1. تحديد الرؤية الكلية لهذه القوات : إن أول أمر مطلوب هو تحديد الرؤية الكلية الحاكمة لمسار بناء هذه القدرات ، فلا يستقيم عقلاً ولا منطقاً أن يقال ، هم يعرفون ما هو مطلوب منهم ! بل يجب أن تشتق لهم رؤية واستراتيجية مشتقة من أصل رؤية واستراتيجية الجهة التي تريد أن تستثمر فيهم وتستفيد منهم عند الحاجة ، وإلا كانت حركتهم ــ إن تحركوا أصلا ــ عند الحاجة غير متسقة ولا متناسقة أو منسجمة مع أصل الحركة الأم ، فتضيع الجهود في غير طائل ، أو على الأقل يمكن أن يجنى منها مردود متواضع لا يتناسب مع كم الطاقة التي تختزنها تلك ( القوات ) .
  2. تحديد القدرات الفعلية : كما يجب أن تمد خطوط التواصل مع هذه ( القوات ) من أجل معرفة ما تملك حقيقة من قدرات وإمكانات ، ومن ثم تحدد نقاط قوتها وضعفها ، فلا تحمل ما لا تطيق ، بل يوضع لها ما يناسب من برامج عمل تزيد من نقاط قوتها وتقلل من نقاط ضعفها ، فتزيد فرص النجاح وتقل مواطن التهديد .
  3. تحديد المهمة بما يتناسب مع القدرة : إن أحد المشاكل في تشغيل مثل هذه القدرات يقع على عاتق المشغل ، فعند سؤاله ما هو المطلوب وما هي المهمة المراد من هذه ( القوات ) أن تقوم بها ؟ يجيب المشغل : أي شيء !! فإنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت !! إن هذا الجواب يُفقد هذه (القوات) والقائمين عليها ثقتهم في الجهة التي تريد أن تستثمر فيهم أو أن تشغلهم ، إن ما يزيد ثقة هذه (القوات) بمشغليهم من كوادر وقيادات ، أن يقولوا ــ القيادات ــ لهم وبكل ثقة : هذه هي قدراتكم وهذا هو الدور المناط بكم والأهداف المطلوب تحقيقها وتلك هي الضوابط والسياسات ، ونترك لكم اجتراح طرق العمل والإجراءات .
  4. تأمين الإمكانات والنواقص : كما يجب أن تقوم الجهات التي تريد أن تستثمر في هذه (القوات) أن تؤمن لهم ما يلزمهم من قدرات وإمكانات ، وأهم ما يمكن أن يقدم لهم قبل الماديّ من هذه الإمكانات ؛ المعرفيّ والعلمي منها والتجارب والخبرات ، فهي أهم من المال على أهميته ، وأهم من السلاح على ضرورته ، فبالمعرفة والعلوم والخبرات والتجارب يمكن أن تجترح هذه (القوات) سبل وطرق تأمين المال والأدوات .
  5. تعريف منظومة القيادة والسيطرة C2 : نختم بلازمة كل عمل منظم يرجى نفعه ليصب ماؤه في نهر المقاومة ، فتتضافر الجهود ويثمر المجهود ويصلب العود ، ألا وهي منظومة القيادة والسيطرة ، التي تضبط المسار الكلي ، وتقول متى يتحرك الجهد المقصود ، ومتى يسكن ، وأين يبدأ الدور وأين ينتهي ، وأين يقع الجزء من الكل ، وكيف يُستثمر المجهود ويترجم نصراً موعوداً ، وبدون هذه المنظومة ؛ فكلٌ يغني على ليلاه ، ويدير النار على قرصه ويشد اللحاف صوب نفسه ، فينشز اللحن ، ويحترق القرص ، وتبرد الأجسام ، فينام العدو على ريش من نعام لا يعاني أرقاً ولا سوء رؤى وأحلام .

كان هذا بعضٌ من وحي (سيف القدس) وهبة أهلنا في مناطق الثمانية والأربعين ، على أن ما قيل إنما هو محرك لبحث تفصيلٍ بحاجة إلى أبواب مغلقة ورؤوس باردة ، فيفتح النقاش على غاربه ، ليبنى على الشيء مقتضاه ، فنجهز علائق خيلنا وقت سلمنا ، فالعليق عند الغارة لا يفيد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى