نهلة… بائعة الملابس المتجولة على خطوط جبهات القتال
خليفة الخضر – صحافي سوري
انزل في مدينة مارع من جهة الشرق، لأسير في شوارعها، أطرق الأبواب، أعرض بضاعتي. هناك من كانوا يرفضون استقبالي بحجة أن ليس لديهم أولاد، فيما يثرثر آخرون معي مطولاً ثم لا يشترون شيئاً.
على الطريق بين مدينتي مارع وأخترين شمال حلب وعند حاجز الشرطة المدنية، طلب مني الشرطي أن أوصلها معي على طريقي وهي ستنزل عند مفرق القرية التي تسكنها، إلا أنني رفضت بحجج كثيرة، فمن يسكن شمال غربي سوريا (مناطق سيطرة المعارضة المسلحة) يعلم الكثير عن قصص الاحتيال والاغتيال، بزي امرأة مسنة واسمها. يتبين لاحقاً أنها رجل يخبّئ تحت عباءته مسدساً أو مجموعة لصوص يستعطفون السائق ومن ثم يهددونه بالنزول من السيارة أو القتل. لذلك لا أسمح بأن أقلّ أحداً معي سوى نادراً، وهذا ما حدث معها. فعلى مدار الأسبوع، يصادف توقيت عودتي من العمل من هذا الحاجز مع توقيت وقوفها، من تحت خمارها بدا لي أنها منهكة ومتعبة وأنها ليست من أولئك المحتالين والمجرمين، فقررت أن أعينها بتوصيلة.
على مدار رحلات متقطعة جمعت قصة شابة سورية عاشت حياة مبعثرة، كانت طرقات القرى صديقتها، حدثتني عن حياتها وفصول من مواقف مضحكة ومحزنة من علاقتها مع أهلها وزوجها ومع الجهات العسكرية وتجارتها في بيع الملابس.
قرية ثلثانة شرق حلب– عام 2013
كنا نستيقظ على أدعية الحج عاصم شيخ جامع القرية أثناء ذهابه لفتح باب الجامع الحديدي الموصد بالجنازير لصلاة الفجر، تمشي في شوارع القرية مع سير الحج عاصم نساء يذهبن إلى منزل أم زياد، ورجال يذهبون لصلاة الفجر. نجتمع نحن النساء من مختلف الأعمار أمام غرفة أم زياد التي لها باب خاص، ننتظرها حتى تنهي صلاتها، نسمع أدعيتها المتداخلة بين اللغتين الكردية والعربية، نحفظ الآيات التي ترتلها أثناء صلاتها. ثم تطلب من أبو زياد أن يشغّل السيارة ويتأكد من زيتها ومائها، وتغض الطرف عن تمتماته المسموعة.
اسمي كان الاسم الأول الذي تطلبه أم زياد. ألقي عليها التحية ثم تطلب مني أن أفتح كيسي وتضع 24 قطعة لباس. أحياناً كنت أطلب منها بعض القطع المحددة، بحجة أنها توصية من الزبائن. أحمل كيسي على كتفي وأخرج من غرفة أم زياد وأركب في صندوق السيارة الخلفي، حتى يكتمل عدد كل النساء ويملأن أكياسهن بكميات من الملابس المطلوب منهن بيعها.
لكنني أعرف لماذا تحبني أم زياد أكثر من الأخريات. أم زياد كانت في الثالثة عشرة عند زواجها الأول الذي انتهى بموت عريسها. ولدت في حي الصاخور في حلب، سلمها أهلها لأهل زوجها السابق وعادوا إلى منزلهم ولم يروها بعدها ولم تزر حلب ثانيةً. توارثها أهل زوجها بعد موته ليزوجوها أخاه الصغير، ذاك الذي ربته وكانت تحممه.
عندما عرفت مني أني ولدت في حي الهلك في حلب ونزحت بعد القصف الذي طاول حينا وبعد قصتي مع زوجي في بداية عام 2013، كانت تقربني منها كوني ولدت في حلب فقط، هي ترى في طفولتها التي تركتها بحلب، تسألني عن أسماء باعة متجولين وشوارع هناك، لكنني لا أعرف الكثير.
يمتلئ صندوق السيارة الخلفي بالنساء، يضرب أبو زياد زموره العالي ينذرنا بالمسير، تتدافع النساء بسبب ضيق المكان ويضعن أكياسهن في حضنهن أو يضممنها على صدورهن، إلى الأكياس التي تتدلى من الصندوق بسبب ضيق المكان.
في صندوق السيارة، نساء يخرجن للمرة الأولى معنا، على رغم امتعاض الأخريات. كنت أراقب عيونهن التي تتأمل طرق القرى للمرة الأولى. إنهن يأملن بجمع بعض المال لشراء لباس جديد أو زيارة حلب، المدينة الحلم. أما أنا فأكره حلب ولا أتذكر منها إلا صوت طيران لا يغادر السماء.
تل مالد، غيطون، الغوز، جب العاصي، ثلاثينة، إكسار، سد الشهباء، قرامل .. وهكذا لكل منا اسم خاص بها واسم خاص بالقرية المفروزة لها وعليها حفظ اسم القرية عن ظهر قلب، فالتي تنسى، ستكون مهددة بألا يوصلها أبو زياد مرة أخرى. وهكذا بات لي ثلاثة اسماء، اسمي ومارع ويا كلبة وهو اسم خاص يناديني به إخوتي وزوجي وأبي.
انزل في مدينة مارع من جهة الشرق، لأسير في شوارعها، أطرق الأبواب، أعرض بضاعتي. هناك من كانوا يرفضون استقبالي بحجة أن ليس لديهم أولاد، فيما يثرثر آخرون معي مطولاً ثم لا يشترون شيئاً. اعتمدت في ما بعد على المنازل التي يخرج منها أطفال إلى المدرسة لأطرقها بعد خروجهم وأعرض بضاعتي.
كنت أتحجج باختيار اسم قرية قريبة من مارع، بعض النسوة كن يقلن لي أن لا أحد في القرى بسبب المعارك وربما لن تبيعي شيئاً!
نظرات الرجال المريبة في بعض تلك المنازل، دفعتني لارتداء الملابس الفضفاضة وتغيير نبرة صوتي، وأصبح لي اسم رابع هو أم عادل، حتى اتحاشى نظرات الرجال. حتى إنني أحياناً كنت أستأجر ولداً وأصطحبه معي على أساس أنه وليد، ابني ما قبل الأخير بين أطفالي الستة!
حاولت بعض البائعات اعتماد أسلوب آخر، وهو إظهار مفاتن أجسادهنّ من طريق تقصير الثوب وتعريض فتحة كمه وتضييقه من منطقة الصدر والمؤخرة، في محاولة لاستمالة صاحب البيت لعلّه يشتري كل ما في الكيس.
في طريق العودة، كنا أحياناً نستكمل أحاديث بدأناها صباحاً، أو نؤجلها من كثرة التعب. نقف أمام باب غرفة أم زياد، نعطيها المال وما بعناه لتخصم رأسمال قطعة الملابس وتخصم حق أبو زياد والسيارة وتعطينا أرباحنا وتعبنا وإن لم يكن لديها كسور المبلغ كقطع العمل المعدنية من العشرات والخمسات، كانت تعطي للنساء بدلاً منها أحمر شفاه أو حناجير عطر بروائح ثقيلة مختلفة.
قبل استكمال قصتي، أود أن أخبرك أنه بعد سيطرة الدولة الإسلامية على قرانا في شهر آذار/ مارس 2014، (سيطر تنظيم داعش على قرية ثلثانة والقرى المحيطة بمدينة الباب بعد معارك مع فصائل الجيش الحر آنذاك وفصائل إسلامية) فُرض على أبو زياد أن تخرج أم زياد معه، لم تخصم أم زياد نسبة ذهابها معنا من بيع البضاعة، وقامت كل النساء بارتداء الخمار وتغطية مفاتنهن، فيما أخريات نزحن وتركن القرية لقلة العمل.
بين السواتر الترابية
كنت أتحجج باختيار اسم قرية قريبة من مارع، بعض النسوة كن يقلن لي أن لا أحد في القرى بسبب المعارك وربما لن تبيعي شيئاً!
انزل من صندوق السيارة في قرية أرشاف، أسير باتجاه كل من قرى حور النهر ومارع وشيخ عيسى، وحربل، (قرى شمال حلب تقع كخط فاصل بين قوات سورية الديموقراطية وتنظيم الدولة الإسلامية وفصائل المعارضة المسلحة)، أجتاز الساتر الترابي من الجيش الحر والدولة الاسلامية والأكراد، كوني أخرج من مناطق الدولة فاعلم أين يزرعون الألغام بالضبط. أسير واتحاشى أن أجلس تحت ظل شجرة أو أي مكان التراب فيه مريب وغير محروث أو فوقه أكوام من الأكياس… من العجيب أن عناصر “الحر” يصرخون بوجهي أن أعود خوفاً علي من الألغام، عناصر الأكراد يفعلون ذلك أيضاً خوفاً علي، فقبل الوصول إلى حاجز “الحر” أو الأكراد يطلبون مني بصوتهم العالي الذي لا اسمع منه شيئاً وإيماءات أياديهم أن أفتح الكيس الذي أحمله على ظهري، ويرون من بعيد ما فيه، فربما يكون لباس الأطفال ملغماً بالمتفجرات. أعرض بضاعتي على الساتر الترابي وكأنني أعرضها للبيع كما أفعل في منازل الزبائن.
مرة بعت كل ما لدي من لباس لساتر ترابي للجيش الحر، أثناء العودة حذرني عناصر الحر من غدر الأكراد أو الدولة الإسلامية بي… عدت باتجاه مناطق الدولة الإسلامية لأكمل طريقي نحو المفرق الذي التقي به مع أم زياد وأبو زياد، وتعجب الجميع لأنني بعت الثياب في قرى نزح معظم سكانها.
في اليوم التالي حدث معي على الساتر الترابي التابع للأكراد مثلما حدث معي مع ساتر الجيش الحر، الكلام والصراخ والإيماءات ذاتها، وأيضاً بعتهم البضاعة وعدت مع تحذيرهم لي من غدر الجيش الحر والدولة بي. المفارقة أنني أعرف كل هؤلاء المقاتلين، بأسمائهم الحقيقية واسمائهم الثانية، فجل أطفالهم لبسوا من بضاعتي، وهنا على الساتر الترابي سوق سهل لشراء ملابس لأطفالهم فمعظمهم يبقون أياماً بعيدين من عائلاتهم. فمن بالأمس كانوا يتراقصون في دبكات طويلة ودائرية الشكل وتتلاصق أكتافهم بأكتاف بعض، يحذرونني من بعضهم الآن، وتفصل بينهم سواتر ترابية.
وفي يوم كان التراب موحلاً في نهاية شتاء 2016، وكانت تغرس قدمي في بطن التراب الأحمر، طلب مني عنصر الدولة أن أعود إذ ستحدث معركة بعد قليل وبشأن بضاعتي وعد بأن يشتريها في حال انتصروا على الكفار، لم أتمنَّ له النصر حتى لا أخسر زبائني من “الحر” والأكراد، فإن اشترى اليوم كل شيء فمن سيشتري مني غداً؟!
عدت انتظر عودة أم زياد وأبو زياد، كنت أمشي بالقرب من قرية اسمها العيون، كانت مخصصة لامرأة هي الآن في إحدى المخيمات على الحدود التركية، ساعدتها ذات يوم وأتذكر أن قليلين فقط فتحوا لنا أبوابهم.
من كانوا يتراقصون بالأمس على الأغاني الشعبية، هم الآن يتراشقون القذائف والرصاص والغارات
دخلت كل الأبواب التي لم تفتح لنا بابها، أتذكر أنه ظل بمخيلتي منزل ذو واجهة حجرية جميلة وغرف جميلة شاهدناها من خلال فتحة الباب، دخلت إلى المنزل الحجري الجميل، تنقلت بين غرفه الكبيرة، تعاملت مع المنزل وكأنه ملكي؛ بل هو ملكي الآن، دخلت غرفة النوم، تمددت بجسدي للمرة الأولى على سرير عريض جداً، لم أتكور على نفسي أو على جنبي كما العادة وطيلة أيام حياتي، تمددت بالطول والعرض على السرير، فتحت كل الخزائن، تركتها مفتوحة، يوجد لديهم أطفال لا أعرف لماذا كذبوا علينا عندما عرضنا بضاعتنا عليهم.
قلت لهم كذابين بصوت عالٍ… ومع صوتي العالي سمعت صوت غارة جوية، خرجت إلى شرفة المنزل لأشاهدها وقد استهدفت مارع، فيما استهدفت قذيفة أخرى محيط سد الشهباء، من كانوا يتراقصون بالأمس على الأغاني الشعبية، هم الآن يتراشقون القذائف والرصاص والغارات.
استندت إلى الحائط وأنا أقف على الشرفة وأشاهد القذائف المتراشقة، دعوت ألا يموت منهم أحد حتى لا أخسر زبائني ولا أخسر خوفهم علي وتحذيريهم لي من غدر الآخرين.
انتظرت أم زياد وأبو زياد على مفرق قرية إرشاف، لم يأتيا. عدت إلى المنزل مشياً لوحدي، مسافة 20 كيلومتراً بطرق متعرجة وسهلية وفي ظلمة الليل وعلى كتفي كيس الملابس لم أبع منه شيئاً.
يوم رحلنا…
طرقت أم زياد وخلفها أبو زياد باب منزلي المصنوع من التنك، ودخلت دون أن أفتح لها الباب، قالت لي إنها ستنزح مع أبو زياد إلى أي مكان فالمعارك باتت قريبة. اقترحت أن أذهب معهما. قبلتها على جبينها العريض وقلت لها لا مكان اذهب له، فبعد خلعي لزوجي، أهلي تجاهلوا وجودي، خافوا من رغيف الخبز الذي سينقص من الربطة التي يتأبطها والدي صباح كل يوم، سكنت هنا في قريتكم مع خالتي التي توفيت وكانت وصيتها أن أحافظ على البيت وعلى الطناجر النحاسية. قاطعتني أم زياد لتقول لي: نضع الطناجر على رأس أبو زياد وعندما يهدأ وضع المعارك ويعود الناس نعود ومعنا الطناجر. وعدتني أيضاً بأنها ستتكفل بعملية تجميل لوجهي وإن لم أرضَ ستعطيني المبلغ وتأخذه مني بالتقسيط. فوالدي عندما عدت من منزل زوجي أطلب عدم العودة إليه، ضربني كثيراً حتى ازرقّ ظهري، وحين جلست أحدّثه، رمى إبريق الشاي على وجهي.
قلت له وقتها: ألعن أبوك على أبو زوجي على أبو العيشة…
كان جلد وجهي ورقبتي وصدري يفرط بيدي من شدة الحرق الذي سببه لي والدي، احتميت من منزل أهلي وزوجي في حي الهلك عند خالتي في قرية بعيدة من بيتنا (قرية ثلثانة)، وبدأت العمل في حصاد الأراضي ومن ثم بيع الملابس حتى أستطيع أن أعيش وأجمع ما يكفيني لإجراء عملية ترميم لوجهي، لذلك بادرت أم زياد بإقراضي المبلغ لكنها مزحت قائلة أخشى أن يغرك جمالك وتتزوجي وتتركيني.
جمعت طناجر النحاس وملابسي الخاصة وضعتها بكيس قماشي، حشرت نفسي بين أكياس البضائع في صندوق السيارة، لا نساء تزاحم مكاني لكن البضاعة متراكمة، لحسن حظي لا أطفال لأم زياد ولأبو زياد ليقاسموني المكان. على حواجز الدولة الإسلامية كانا يقولان إنني ابنتهما.
أمضينا أشهراً ننام في السيارة وكل يوم نذهب إلى الأسواق في الرقة والطبقة والمنصورة، وهي مناطق كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة في تلك الفترة، نبيع بضاعتنا في البازارات ومن ثم يفسح ما نبيعه لي مجال للتمدد أكثر بصندوق السيارة.
هدأ قصف طيران دول العالم ( نيسان/ أبريل 2017) لاحقاً، وعدنا إلى قرية ثلثانة، قاسمتني أم زياد غرفتها وما زلت أبيع الملابس حتى بعد إجراء عملية ترميم لجلد وجهي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع