حليبُ الذئاب
في الروايات، أنَّ ذئْبـاً انتُـزعَ من حضانَةِ أمِّـهِ عند الولادة، ووُضعَ في عِهـدَةِ شـاةٍ إحتضَنـتْهُ وربَّـتْه، ومنْ حليبها طويلاً أكَـل…
وحين بلَـغ سـنَّ الرشْدِ الوحشي تحرَّكَتْ فيه غريزتُـه فانقضّ على الشاةِ التي ربَّتـهُ والتَهمَها.
وفي ذلك قال الشاعر:
أكلْتَ حليبَها وربيتَ معْها
فما أنباكَ أنَّ أباكَ ديـبُ
إذا كانَ الطباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يفيدُ ولا حليبُ.
بعفويِّـةٍ طرأتْ على خاطري هذه الرواية، ولستُ أدري ما إذا كان الحليبُ الذي التَهمتـهُ الوحوش من أفـواه الأطفال هو الذي يذكّرني بها، أوْ هيَ الذئـاب التي ارتوَتْ من حليب لبنان، وقد انقضّتْ عليه نهْشاً وافتراساً.
وقِصّـةُ قتْـلِ الأطفالِ بالجوع تذكّرني بقصّـة قتْل الأطفال بالـوأْدِ في الجاهلية حين كان الآبـاء يطمرون البنات أحياءً في الرمل والأمُّ عند الولادة تبكي جنازةَ طفلتها.
وتذكّرني هذه القِصَّة بوحشيّة هيرودس ملك اليهود الذي أراد إهلاكَ المسيح عند ولادته فأمَـر بذبح أطفال بيت لحم.
وتعميماً للفائدة أكثر، أتذكّر حليب «فيليب» صاحب محاكم التفتيش الذي ورث عهدَ بلجيكا وهولاندا عن والده ملك إسبانيا، وحين عاد مريضاً من إحدى غزواته، ومن أجل حفْظ حياته رضـع الحليب من ثـدي إمرأةٍ هولندية فقيل فيه: عاش سنةً على الحليب ونصف قـرنٍ على الـدم (1).
هذهِ القِصَصُ باختصار تشكّل بعضاً من القصّة التي عندنا، بل من الملحمة الشعرية التي تتألّف من أبيات جنائزيةٍ في وطـنٍ أصبح مقبرةً للأحياء، والسماءُ فيه بلا قمـر ، والأرضُ تضـجُّ بالصُراخ وجَعاً:
صُراخ الأطفال وراء الحليب…
صُراخ الكبار وراء الرغيف…
صُراخ التجّار وراء الدولار…
صُراخ الشباب وراء المستقبل…
صُراخ المواطنين وراء شَتاتَ وطـن…
صُراخ قائد الجيش ماذا تفعلون…؟
وصراخٌ وراء جمهوريةٍ عاريـةِ الثديَـيْنِ ودولةٍ تفتـقد العفاف .
والذين هـم فوق، ينتصبون كالتماثيل المنحوتةِ بالفحم، ولم يدركوا بعد أنهم أصبحوا تحت.
لعلّ المنظومة الفاسدة تراهن على استنزاف العزْم الشعبي، على الكلَل والملل، على اليأس والتعب والقـرَف وفواجع الجوع.
تراهن على «الكورونا»، على تهجير الأدمغة والنُخب، وعلى القمع والسجون والخردُق في العيون.
على افتعال أزمات متلاحقة، وكلُّ أزمـة مستجدّة تبدّد مفاعيل التي قبلها.
وعلى طريقة وزير الخارجية الأميركي كيسنجر: «إخلـقْ وضعاً أكثر شذوذاً من الوضع الشاذ فتصبح مهيَّـئاً لقبول الوضع الشاذ…؟».
ولكن، هل ستنجح المراهنة على إبادةِ شعبٍ يرضى بأنْ يُـذَلَّ ، ويظـلّ مهدّداً بالدفْنِ تحت أنقاض الإنفجارات وبُـركِ الـدم…؟
ما داموا يقولون: إنَّ لا ثورة بلا دم، فلا خيار إذ ذاك إلّا بالجنون الدموي.
وما دام لا خيار إلاّ بجهنَّم ، فليكن الرقْصُ مع الأبالسة بالسيوف، ولتكنْ أمامَ الشعبِ جهنّم عنترة بن شداد:
مـاءُ الحياةِ بـذلَّةٍ كجهنَّمٍ.
وجهنَّـمٌ بالعـزِّ أطيبُ منزلِ الظلمُ منذ أعماق التاريخ كان هو الدافع المحموم لثورة الطبقات المستعبدة حين قاد سبارتاكوس ثورة العبيد سنة 71 : ق. م.
فلا ظلم بلا ثورة ولا ثورة بلا عقاب…
بعد ثلاثين عاماً على الحرب العالمية الثانية ذكرتْ صحيفة البراڤدا السوفياتية أن ثمانيةً من السوفيات اتُهّمُـوا بالخيانة والعمل لحساب إلمانيا الهتليرية.. وبعد ثلاثين عاماً تـمّ إعدامُهم بالرصاص.
ثلاثون عاماً هي المـدّةُ التي حان استحقاقها عندنا.