مراكب الموت بحثاً عن الحياة!
احتفل مواطنون لبنانيون بمجيء الكهرباء في إحدى بلدات الشمال. رقصوا ودبكوا وزغردوا فرحين احتفاءً بوصول التيار الكهربائي المقطوع عن البلدة منذ أشهر. وُثِّقت الفرحة بفيديو ساخر انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية. هؤلاء المواطنون، وكثيرون مثلهم في قرى الشمال، هم من يشدّون الرحال في مراكب الموت بحثاً عن حياة. أبسط متطلبات الحياة هنا مفقودة. الماء والكهرباء عملةٌ نادرة. ربطة الخبز لم تعد في متناول الجميع. البطالة تفتك بالشباب. من يمرض من الأهالي، لا يجد مستشفى تستقبله. ومن يدخل المستشفى، لا يجد سبيلاً لتأمين نفقات العلاج. مرضى السرطان يموتون من الألم. الدولة عاجزة عن توفير الدواء للمصابين بالداء الخبيث. أما ما توافر منه في السوق السوداء، فصعب المنال لكونه يُسعَّر بالعملة الصعبة. تُسجّل شكاوى بالعشرات من الأهالي الذين يُطردون من منازلهم المستأجرة لعجزهم عن سداد إيجارها للمالكين. حوادث السلب والسرقة باتت يومية. إطلاق النار يحصل على أتفه الأسباب. الدولة غائبة تماماً. هنا تتساوى الحياة مع الموت.
لماذا يغامرون؟
الكلام أولاً عن الأسباب، قبل السؤال عن المستفيد. هل هناك عصابات للتهريب؟ بالطبع نعم. هم ممن يُطلق عليهم اسم تجار الأزمات. لكنّ هذا لا يمنع السؤال عن السبب الذي يدفع أباً إلى حمل ابنته فيما تتأبّط الأم رضيعها، على متن مركب قد تتكسّر أخشابه ليغرق في أي لحظة ويبتلعهم البحر؟ لماذا يُكرّر هؤلاء التجربة مع علمهم بأنهم يخاطرون بأرواحهم وفلذات أكبادهم؟ فهذه الحوادث تتكرّر منذ المأساة الأولى التي تشتهر بـ«حادثة قبعيت» في العام 2014، والتي غرق جرّاءها العشرات أثناء محاولتهم الهرب عبر البحر باتجاه أستراليا.
«ما أجبرهم على مُرّ الموت غرقاً، هو الأمرّ منه»، بهذه العبارة يلخّص مختار بلدة ببنين العكّارية زاهر قصّار واقع الحال. كثيرون يبيعون كلّ ما يملكون لحجز مكان لهم على مركب الموت في رحلة مجهولة المصير. يتراوح سعر التذكرة بين 3 إلى 5 آلاف دولار للشخص الواحد، لكنهم يستميتون لتوفيرها. أحد أهالي الضحايا يسأل نفسه ويُجيب: يتهموننا بالجنون وقلة المسؤولية لنخاطر بأنفسنا وأهلنا، لكنهم لم يذوقوا ما نقاسي كل يوم. صحيح قد تدفع العائلة مبلغ 10 آلاف دولار وأحياناً 15 ألف دولار تكلفة الرحلة، لكن هذا المبلغ، وهو كل ما تملك هذه العائلة، لا يكفي لإنشاء مشروع أو استثمار. وإن سلّمنا جدلاً بأنّه يكفي لفتح مشروع، فهو محكوم بالفشل في بلد الأزمات. هل ننتظر لنموت ببطء؟ هل ستكفينا هذه الأموال إن دخل أحد منا المستشفى أو تعرّض لحادثة؟ ما أسهل الكلام. لذا عوضاً عن المخاطرة، يُقامر هؤلاء بأمل ضئيل بأن تكون الحياة «هناك» أكثر رحمة من هنا.
عصابات صغيرة
لا يوجد مافيا بمعني المافيا، بحسب المصادر الأمنية. ولا يوجد مراكب منظمة ورحلات محّددة سلفاً، لكنّ هناك عصابات صغيرة عناصرها مهرّبون وصيادون يبحثون عن الربح السريع. تبدأ الفكرة مع شخصين أو ثلاثة، يجمعون الركاب والأموال إلى أن يكتمل النصاب. وفي معظم عمليات التهريب، ستجد على متن المركب الذي جلبه المهرّب، ابنه وزوجته ووالدته! هو أيضاً أحد هؤلاء اليائسين الذي قرّر المقامرة. هدفه الكسب والنجاة. فكثيرٌ من المهربين كانوا صيّادين على متن «الفلوكة». ولدى بدء موجات الهجرة، التحقوا بالركب. ثمن المركب، تبعاً لنظافته، يتراوح بين 40 و50 ألف دولار أميركي. يشتري المهرّبون المركب بعد أن يجمعوا مبالغ تتراوح بين 400 أو 500 ألف دولار. يُحسم منها مبالغ مالية كبيرة تُدفع لعناصر أمنية لغض النظر عنهم وتأمين السِكّة في البحر للمرور بسلام من دون تضييق من دوريات خفر السواحل.
غرق مركب الهاربين على سواحل طرطوس كان كارثة جديدة تضاف إلى سجل لبنان الأسود. وقد أصدرت مديرية المخابرات بياناً ذكرت فيه أنها أوقفت المواطن (ب.د.) «للاشتباه في تورّطه بتهريب مهاجرين غير شرعيين عبر البحر. وقد ثبت نتيجة التحقيق تورطه بإدارة شبكة تنشط في تهريب مهاجرين غير شرعيين عبر البحر… وقد اعترف بالإعداد لعملية التهريب الأخيرة من لبنان إلى إيطاليا عبر البحر والتي أسفرت عن غرق المركب قبالة الشواطئ السورية. ويستمرّ التحقيق مع الموقوف ومتابعة الشبكة لتوقيف أفرادها بإشراف القضاء المختص». ورغم أنّ هذا البيان تحدث عن شبكة تهريب، إلا أنّ معظم أهالي الضحايا الذين تواصلت معهم «الأخبار» كانوا يؤكدون أنّ أفراداً منهم من كانوا يُقنعون البحارة والمهرّبين بتنظيم الرحلة للهرب من لبنان.