ما بعد روما
قد يقول قائل إنّ القيادات الدينيّة المسيحيّة لا تختلف في افتقارها الفكريّ وعشوائيّتها السلوكيّة عن سائر القيادات الدينيّة في لبنان اليوم. هذا الكلام صحيح، ولا شكّ. فالقيادات الدينيّة في لبنان، ما خلا استثناءات قليلة، ما زالت تدور في حلقتها المفرغة. وهذه الحلقة اسمها الحفاظ على ما تعتبره امتيازات للطائفة في ظلّ تهافت فكرة المواطنة، علماً بأنّ هذه الامتيازات غالباً ما تكون محصورةً في الزعيم السياسيّ، الذي يعتبر الجماعة الدينيّة مجرّد «إقطاع» له، وممتدّةً إلى من يدعمه أو يطبّل له أو يعمل عنده من القادة الدينيّين. غير أنّ القادة الكنسيّين مطالبون اليوم بأن يجترحوا شيئاً جديداً. فمسرحيّة التحالف مع السلطة انتهت. وها هم المتفرّجون يغادرون القاعة مشمئزّين من تفاهة العرض وطابعه الأماتوريّ. ورغم النكسات الكثيرة التي تعرّض لها المسيحيّون في لبنان، هم لا يزالون يشكّلون، بمعنىً ما، بيضة القبّان، لا لأنّهم أذكى من غيرهم، كما يحلو لبعضهم أن يصوّر، بل لأنّهم كانوا أصحاب اليد الطولى في إنشاء فكرة الوطن اللبنانيّ، مع ما يتّصل بها من ثقافة الحرّيّة والانفتاح، حتّى إنّ الآخرين الذين وقفوا حيالها بدءاً وقفة المشكّك، انتهت بهم الأزمنة إلى تبنّيها والدفاع عنها.
ليس صحيحاً ما يروّج لهم بعضهم أنّ هذه الفكرة مجرّد وهمٍ وبنيانٍ كرتونيّ. لا ريب في أنّ نواقص كثيرةً اعترت تطبيقها. ولا ريب في أنّها عاشت في مهبّ ريح بين جماليّات المثال وحسابات معظم ساسة لبنان الضيّقة الأفق. ولكنّ الأكيد أيضاً، كما قال أنسي الحاجّ ذات يوم، أنّ فسحة الحرّيّة التي اسمها لبنان اقتضت حرباً أهليّةً بأجندات إقليميّة ودوليّة لمحاولة القضاء عليها. هذه الفكرة جديرة بأن يُعمل لها، وبأن يعكف كلّ من لم يفقد رجاؤه بعد، رغم الملمّات السياسيّة والصعوبات الاقتصاديّة، على إنقاذها.
عمليّة الانقاذ هذه تستوجب أن يطوّر المفكّرون المسيحيّون الذين يعتبرون ذاتهم معنيّين بالمحافظة على هويّة لبنان الانفتاحيّة والحرّة ضرباً من خطاب جديد يُخرج المسيحيّين من بوتقة الكلامولوجيا السياسيّة التي ترهن وجودهم على طاولة بوكر كبيرة اسمها «حلف الإقلّيات». كما تقتضي عمليّة الإنقاذ هذه رسم الخطوط الأساسيّة لخريطة طريق جريئة ربّما يشكّل اجتماع القادة الكنسيّين مع البابا فرنسيس في رحاب المدينة القديمة منطلقاً لها أو بعض تمتماتها، هذا إذا جدّ جدّ هؤلاء وحسموا أمرهم في الاعتبار أنّ الدفاع عن بقاء الوطن وهويّته أهمّ من الصغائر والتوافه والتنافسيّة الجوفاء. إنّ معيار ما سيحصل في روما سيكون ما بعد روما. وهذا لناظره قريب…