“إتفاق إطار” لمنح كاريش لتل أبيب
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
حسناً، لقد تمّ الإجهاز على الخطّ البحري رقم 29، وجميع أعضاء طبقة “الأوليغارشية” قد بلّ يده فيه عن سابق إصرار وترصّد، ونظرياً أصبح الخطّ الحدودي الحقيقي، ضحيةً لجريمة جديدة تُرتكب أمام الرأي العام وبجرأة وعدم إحساس بالمسؤولية قلّ نظيرهما، لكن هل انتهى كلّ شيء؟ قطعاً لا، وإن أُجهز على الخطّ سياسياً لكنه باقٍ بلغة وقوّة القانون!
قبل يومين، نُشر مضمون الرسالة التي أُرسلت من بيروت إلى الأمم المتحدة، والتي شكّك البعض باحتمال نشرها على موقع الأمم المتحدة الإلكتروني، وقد بيّنت حقّ لبنان في الخط 29 ولو أنها لم تذكره بالإسم. وبحسب ما يرد عبر موقع مستندات الأمم المتحدة – قسم شؤون المحيطات وقانون البحار، فإن النصّ تُرجم إلى 6 لغات، وبالتالي يكون “لبنان القانوني” قد أعلن عن حقّه ولو تخلّى السياسيون عنه، ومثل هذا المستند سيبقى كوثيقة مرجعية لأي شركة تُريد أن تباشر أعمالاً ضمن النطاق البحري الجنوبي ما بين الخطّ 23 والخطّ 29. وبحسب مصدر متابع للملف، لنشر الرسالة “قوة مؤثرة وفوائد عظيمة ومستدامة، ولا يمكن الرجوع عنها إلاّ بنصّ نقيض لها”.
حتى اللحظة، ما ظهرَ من طرح كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين، لحلّ النزاع البحري بين لبنان والعدو الإسرائيلي، يأتي على شكل تطميع الدولة اللبنانية باحتمال منحها حقل “قانا” -دون تأكيد ذلك- مقابل رقعة ضمن المياه اللبنانية تقع شمال الخطّ 23، تُرجّح مصادر خاصة أن تكون في البلوك 8، تُعطى للجانب الإسرائيلي مقابل التنازل الكلّي و الكامل عن الخطّ 29 بصيغة رسمية. وهذا ما يؤكده كلام هوكشتاين في مقابلته التلفزيونية بعد لقائه المسؤولين اللبنانين، بأن النزاع هو ما بين الخطّ 1 والخطّ 23 ولا أحد يستطيع أن يأخذ 100 بالمئة. وبذلك يكون نقل النزاع من حقل “كاريش” إلى نزاعٍ عقيم وطويل الأجل يبدأ ولا ينتهي بتبادل الحقول في المياه اللبنانية ضمن مساحة 860 كلم مربع.
و في تقدير غالبية المتابعين، إن هدف زيارة هوكشتاين الأساسية وهو منح لبنان حرية عمل للجانب الإسرائيلي في حقل كاريش المتنازع عليه. وبالتالي تخسيره أهم نقاط القوة التي كان يتمتّع بها وهي عدم السماح للعدو بالعمل في “كاريش” قبل التوصل إلى حلّ عادل ومنصف للحدود البحرية.
الفكرة أعلاه أخذت تتفاعل لدى أوساط سياسية، وكلام رئيس الجمهورية ميشال عون الصحافي الأخير، الذي تضمّن تخلّياً واضحاً عمّا كان يعلنه سابقاً حول الخطّ 29 وتبنيه للخطّ 23 ، يصبّ في اتجاه إنجاز التفاهم المبدئي. فصحيحٌ أن عون انقلب على ما كان يوافق عليه في السابق، وقد شهدَ على ذلك رئيس الوفد العسكري التقني المفاوض العميد المتقاعد بسام ياسين، لكن الصحيح أيضاً أن رئيس الجمهورية تولّى بالوكالة عن غيره، تأمين ظروف الإنقلاب الذي بدأ من إطلالة هوكشتاين التلفزيونية.
لكن طبعاً فإن حلاًّ من هذا القبيل يحتاج إلى إجراء دراسات تتيح البدء بأعمال تنقيب لمعرفة مكمن حقل “قانا” بالتحديد، هل ينطلق من الجهة اللبنانية أو بالعكس، وعلى هذا الأساس يمكن البدء في النقاش حول النسبة التي يحقّ للبنان أن يكسبها، أي نحن عملياً أمام تسليمٍ ببدء التفاوض إنطلاقاً من الخطّ 23 و تفاهمٍ على اتفاقٍ “ملحق”، حين يُتاح للشركات العمل ضمن هذه المنطقة وتأمين اتفاقٍ من دون ضمانات واضحة، فمن يضمن أن يلتزم الجانب الإسرائيلي بما قد يتمّ التوصل إليه لاحقاً؟
عملياً، لا يمكن تفسير انهماك الوسيط الأميركي في ملف الترسيم إلاّ من زاوية إسراعه في تأمين الأجواء التي تسبق وصول السفينة FPSO الموكل إليها أعمال الإنتاج من حقل “كاريش”، وقد فُهم من حركة هوكشتاين الداخلية، أنه يُريد “تحرير الزحام” حوله لتمكين الجانب الإسرائيلي من إتمام أعماله بهدوء وبعيداً عن أي مخاطر أمنية، وذلك عبر اعتماد نموذج إلهاء واضح، يجعل من لبنان واحةً تغرق بالنقاشات الداخلية التي لا تنتهي حول الترسيم والطروحات .. الخ، لذلك حاول “القوطبة” في المجال الداخلي لكي يُلزم أطرافاً محددة مسألة “التفاهم” مع “حزب الله” حول وضعيته مستقبلاً إذا ما تمّ التوصل إلى اتفاق، ومن الواضح أن الحزب يثير الخشية الإسرائيلية من إمكانية أن يتحرك حين يدخل العمل في كاريش حيّز التنفيذ الشهر المقبل.
ثمة جهةٌ في الداخل وكما بات واضحاً، تسوّق لجني الحدّ الأدنى من التفاهم المائي مع الإحتلال لـ”تحرير” عقود التنقيب على المقلب اللبناني تحت ذريعة الحاجة، ولاحقاً يتمّ البحث في القضايا الأخرى، وهذا إنمّا يعني نقلاً لدائرة الإشتباك وتوسيعها. إلى جانب ذلك، ثمة قضية مهمة تتصل بنوعية ما تقدّم به هوكشتاين في بيروت من اقتراحات والذي يتصّل تحديداً بالتقاسم تحت الماء، فكيف يمكن أن تتمّ عمليةٌ مشابهة في ظلّ عدم انتهاء الإكتشافات أقلّها ضمن الخطّ 23؟ ويقول مصدر معنيّ أن الإكتشافات عادةً ما تأخذ وقتاً، حيث أن أي مشروع اكتشاف يحتاج بداية إلى تحديد الحدود ثم إجراء التلزيمات التي تعني تخطيطاً ودراسات، ولاحقاً تأتي أعمال التنقيب والحفر وهذه كلّها تحتاج إلى سنوات من العمل والجهد، وفي أثناء انهماك لبنان في الإكتشافات والإستمرار بعمليات الإستكشاف، يكون الجانب الإسرائيلي مرتاحاً في الإنتاج من كاريش مثلاً ويكون هذا الأخير قد بدأ التصدير وجني المحصول براحة.
ومن وجهة نظر مراقبة، فإن ما يُخطط لإقحام لبنان به، يأتي من قبيل التنازل المبدئي لإتاحة كافة الظروف للجانب الإسرائيلي لكي يُنجز ما يريد إنجازه، وتستخدم في هذا الإطار عصا “الطاقة و الغاز” من الأردن ومصر. وبحسب المعنيين، إن أي إتفاق يُحكى عنه لن يكون ناجزاً ضمن الفترة القصيرة المدى لعدة أسباب لوجستية وتقنية تُعيق ذلك، وإمّا ما يُراد فعله هو التوصل إلى “إتفاق إطار جديد لتحرير كاريش” بمعنى تحييده عن أي خطر وبعد ذلك يتم البحث في تفاهم كلي وكامل وفق “رؤية عاموس” يجري توقيعه إنسجاماً مع البند رقم 5 الفقرة ب من إتفاق الإطار والذي ينصّ على توقيع مشترك ما بين الجانبين اللبناني و الاسرائيلي عند حصول إتفاق.
فإذا كان هدف الرئيس أن يُنجز اتفاقاً حول ترسيم الحدود البحرية خلال الفترة المتبقية من عهده، نقول له إن الإسرائيلي أخذ كلّ شيء بتنازل لبنان عن الخطّ 29، وهو الآن ليس بحاجة لتسريع عملية التوصل إلى حلّ، ومع طرح هوكشتاين، يكون لبنان قد تخلّى عن ملعبه القوي المتمثّل برسم الحدود فوق الماء كما تفعل جميع الدول وفقاً لقانون البحار، وانتقل الى الملعب الضعيف المتمثل بتقاسم الحقول التي يكون فيها العدو أقوى، لعلمه بما يوجد تحت الماء من ثروات وجهل لبنان لذلك.