د. نادية عويدات
في الثاني من أيار 2011 داهمت قوات خاصة أميركية منزل أسامة بن لادن في أبوت أباد في باكستان، وقتلت الرجل الذي تعتبره الأجهزة الأمنية الأميركية أحد أهم رموز الإرهاب العالمي في القرن العشرين. أثناء المداهمة تم الاستيلاء على ملفات بينها، دفتر مذكرات مكتوب بخط اليد، يبدو أنه سجّل أفكار وملاحظات زعيم “القاعدة” حتى مساء آخر يوم في حياته.
وشاءت الظروف أن يطلب مني مؤخرا مركز بحوث في واشنطن المساعدة في توفير ترجمة مختصرة لهذا الدفتر، بالطبع وافقت على الفور. فالباحث تغريه معرفة التفاصيل ليقترب أكثر من تحليل الأحداث مهما كانت دقيقة ومركبة. بالنسبة لي، وربما لكثيرين غيري، تبدو التفاصيل مثيرة للفضول والدهشة للاطلاع على الجوانب النفسية والعاطفية التي شكلت الشخصية الأكثر جدلا في القرن العشرين، أسامة بن لادن، التي نُسج حولها الكثير من التساؤلات.
فبن لادن هو “رجل الأعمال” الذي هجر القصور ليسكن الجبال، و”الشيخ” صاحب الأيديولوجيا، الذي انتشرت أفكاره لتعشش في عقول الأصوليين، ليصبح ملهما للعنف والتطرف، وهو كذلك زعيم تنظيم “القاعدة” و”العقل المدبر” الذي خطط ونفذ أحداث 11 سبتمبر 2001 التي كانت المرة الأولى التي تهاجم فيها الأراضي الأميركية في عقر دارها منذ الحرب العالمية الثانية. ذلك الهجوم الذي راح ضحيته آلاف الأبرياء، وأصبح حدثا مؤسسا لولوج حقبة جديدة وعالم جديد وتحالفات دولية محورها “الحرب الاستباقية” و”الحرب على الإرهاب”.
الإعلامي الأميركي بيتر بيرغن، نائب رئيس مركز البحوث “نيو أميركا” والمختص بشؤون الإرهاب في قناة “سي أن أن”، كان من الأشخاص القلائل الذين سُمح لهم برؤية المنزل في اليوم التالي للمداهمة، وكان مما استغرب لرؤيته علب صبغة الشعر للرجال. ترى هل كان زعيم الإرهاب يصبغ شعره، ليبدو أصغر سنا لزوجاته الأربع، وأصغرهن تزوجها وهي مراهقة بينما كان هو رجلا في الأربعينيات؟ يبدو الأمر كذلك!
دفتر المذكرات المؤلف من 220 صفحة يعطي نافذة على الحياة الشخصية والعائلية، والأفكار التي كانت تشغله وعائلته لآخر أشهر في حياته. فقد سجلت المذكرات اجتماعات يومية للعائلة، لمناقشة أحداث الربيع العربي التي كان بن لادن يتابعها كل يوم على شاشات القنوات الفضائية المختلفة، وتلخصها، ربما إحدى بناته سمية أو مريم، في الدفتر مع ردة فعل بن لادن، الذي يبدو أنه أراد أن تكون ردود فعله مسجلة.
ومما لا شك فيه أن أفراد العائلة المتواجدين معه ومعظمهم نساء وأطفال، ما عدا ابنه خالد، لعبوا دور المعجبين المتلهفين لسماع آراء “الشيخ” الأب. المذكرات ناقشت بإسهاب كيف سيرد بن لادن، وما سيكون محتوى خطابه للذكرى العاشرة لحوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
من أكثر ما يلفت النظر، هو أهم الأفكار التي أراد بن لادن أن يوصلها لـ”الأمة” في خطابه المرتقب. فقد حرص مرارا وتكرارا، مؤكدا على بناته تحديدا، اللاتي يبدو أنهن كن بمثابة سكرتيرات شخصيات له، بأن يركزن في تجهيز الخطابات على ثلاثة أمور: أولها التركيز على إقامة مجلس شورى يقوم فيه “الصادقون” بتوفير النصيحة والمشورة، للدول التي تقوم فيها الثورات، والأخرى التي على وشك ذلك. الأمر الثاني هو أهمية إقامة مراكز بحوث ودراسات، حيث تستطيع “الطاقات الهائلة” المساهمة في علاج تحديات الأمة مثل نقص الغذاء والبطالة بطريقة علمية، متذمرا من أن أميركا فيها أكثر من 1000 مركز بحوث بينما في الدول الإسلامية العدد هزيل.
ليس واضحا أبدا كيف تصور بن لادن أن الطاقات الموهوبة في العالم العربي والإسلامي تستطيع أن تفكر بحرية للقيام بدراسات كهذه، فيما قيمة الإنسان شبه معدومة أمام عنف الجماعات المتطرفة، التي ساهم تنظيمه، إلى جانب عنف الأنظمة الديكتاتورية، في خلقها.
وثالثا، أراد التأكيد على أهمية الاهتمام بالتربية وإنشاء أجيال لا تكن بالنفاق وبالطاعة العمياء للطغاة، كما يفعل الكثير من علماء المسلمين ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي. نعم، هذا صحيح، الجهاد لم يكن أحد النقاط المحورية التي أرادها بن لادن للأمة.
اللافت في أفكار بن لادن، الذي تسبب بمقتل مئات الآلاف من المدنيين العزل، سواء المسلمين أو غير المسلمين أنه ينصح، وإن لم يقل ذلك صراحة، باتباع ما قام به الغرب ليحكم العالم وهو الاستثمار في العلم ونشأة أجيال حرة. كم هو مثير للتساؤل أن أسامة بن لادن حتى وهو يخطط لتدمير الحضارة الغربية، كانت مقومات تلك الحضارة هي الميزان الذي أراد استخدامه لإيصال آخر رسالة له.
فإقامة لجان ومجالس شورى هي الطريقة الحضارية لحل المشاكل بدل المنظومة العنفية التي حثت عليها الجماعات المتطرفة ومنها “القاعدة”. أما عن مراكز البحوث، فأي مراكز بحوث استطاعت أن تنشأ في أفغانستان، التي تدهورت للعصور الحجرية، عندما حكمتها أفكار “القاعدة”. الميدان الوحيد الذي كانت هذه الأفكار بؤرة له هو الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، خصوصا ضد النساء. هل كان بن لادن يخدع نفسه؟ أم أن ذاكرته مسمومة؟ كيف تكون هناك مراكز بحوث و”القاعدة” وأخواتها قتلت وشردت من المسلمين مئات الآلاف لأتفه الأسباب.
أما عن النفاق والطاعة، فالمضحك المبكي أن الثقافة العربية بشكل عام، وليس فقط “الداعشية” و”القاعدية” منها، تستخدم مفهوم الطاعة بنجاح كأكبر وسيلة لتعطيل الفكر النقدي، وجعل الناس قطيعا يساقون بسهولة لخدمة مصالح أولياء الأمر، على حساب غيرهم. الطاعة العمياء، التي هي إهانة لكرامة البشر وطريقة لسلبهم إنسانيتهم، ليست سوى خدعة فعالة وجزء رئيسي في ثقافة سلطوية قمعية من أزلها لمسح النزعة الفردية في الإنسان. ومن تبعات ثقافة الطاعة انعدام وجود مساءلة في المسؤولية، ليس فقط في أمور الحكم، بل أيضا على جميع المستويات في المجتمع.
في المقابل، في منظومة التربية الغربية تتم تنشئة الأجيال على الفكر النقدي وعلى الإقناع، لا العنف. ورغم أن الغرب نفسه لا يحترم هذه المبادئ أحيانا إلا أنها جزء لا يتجزأ من منظومة الشعوب الغربية.
إن أفكار بن لادن ـ غير المألوفة ـ في أشهره الأخيرة هي أكبر دليل على فشل، بل وإفلاس الأيديولوجيا الإرهابية وأفكارها. هل يا ترى أدرك بن لادن فشل منظومته ولو عن غير وعي؟ هل كانت هذه محاولته لاستمالة الأجيال التي تظاهرت بكل سلمية ونادت بقوانين مدنية، وقامت فعلا بإنهاء أنظمة لم تستطع عشرات السنوات من الهجمات الإرهابية زعزعتها؟ هل أراد بن لادن أن يحسن صورته أمام الأجيال التي رفضت أساليبه؟ هل كانت أفكاره محاولة يائسة لاستمالة شباب الربيع العربي؟
المذكرات تذكر أن بن لادن كان يخشى الاستهزاء به لو حاول ربط الربيع العربي بـ”القاعدة”. فهل تمثل هذه المذكرات آخر فصل من وقاحة إرهابي يحاول تنظيف تاريخه، متناسيا أن أفكاره وكل من تبعها لم تجلب للأوطان سوى الدمار والقتل؟
المصدر: الحرة