“تنوفا” الإسرائيلية.. خطة الحرب المقبلة لم تكتمل
حسن لافي – كاتب فلسطيني مختص بالشأن الإسرائيلي .
حدث تغيّر جوهريّ في التهديدات الموجّهة إلى “إسرائيل”، إذ لم تعد الجيوش العربية النظامية تشكل التهديد المركزي لأمنها، بل نشأت تهديدات جديدة تتمثّل في تنظيمات المقاومة اللادولتيّة “شبه الرسمية”، التي استطاعت منذ حرب تموز 2006م، مروراً بحروب غزة الثلاث، أن تشكّل تهديداً متنامياً لأمن الكيان، إلى الحدّ الذي أدرجه البعض ضمن دوائر التهديدات الاستراتيجية له، ولكن من الجدير بالذكر أنّ “الجيش” الإسرائيليّ لم يستطع تحقيق الحسم الذي تنصّ عليه العقيدة العسكرية الإسرائيلية في مواجهاته مع تنظيمات المقاومة اللادولتيّة.
أجبرت نتائج حرب لبنان الثانية المؤسَّسة السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة على ضرورة إجراء مراجعات شاملة لمدى جهوزية “الجيش” الإسرائيلي، إذ بدأت المؤسَّسة العسكرية الإسرائيليّة منذ انتهاء حرب لبنان الثانية بإجراء تغيير تدريجي بعيد المدى واستراتيجي، وبشكل مستمرّ.
بدأ رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي غابي أشكنازي (2007-2011) منذ تسلّمه قيادة هيئة الأركان بتنفيذ رؤيته للإصلاحات والتّغييرات في “الجيش” الإسرائيليّ، من خلال خطّة “تيفين” (2008-2012) الّتي كان عنوانها إعادة الاعتبار إلى القوات البرية الإسرائيليّة وقدرتها على القيام بالمناورة البرية مع التنسيق التام مع سلاح الجو، من خلال القدرة على إدارة معركة تعتمد على المناورة (برياً) والنيران (جوياً)، الأمر الذي يتطلَّب بناء قوة “الجيش” الإسرائيلي ومفهومه للعمليات من جديد.
لم تنهِ خطة “تيفين” جهوزية “الجيش” الإسرائيلي، ولكنها وضعت الأساسات لعملية تطوير مستمرة للوصول إلى الجهوزية، حيث انصبّ الاهتمام طوال فترة أشكنازي وبداية فترة رئيس الأركان بني غانتس (2011-2015) على إنجاح ما كان يُسمى “العودة إلى الأساسيات”، بمعنى بذل “الجيش” الإسرائيلي جهوداً كبيرة لإعادة تأهيل قدرات القوات البرية.
أطلق رئيس الأركان غادي أيزنكوت خطّة “جدعون” المتعدّدة السنوات (2015-2020)، التي وضعت الخطوط العريضة لبنية “الجيش” الإسرائيلي من جديد، وأعادت الاعتبار إلى سلاح المشاة على مستوى الموازنات، ونوعية التدريبات، وتطوير المعدات، والأهم إعادة الاعتبار إلى دور سلاح المشاة في العقيدة القتالية الإسرائيلية، وتحديد العلاقة ما بين المستوى السياسي والمستوى العسكري.
خطّة تنوفا (2020-2025)
تولّى أفيف كوخافي منصب رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي خلفاً لأيزنكوت في العام 2019م، وشرع مباشرة في عقد العشرات من ورشات العمل داخل “الجيش” باشتراك مجموعة كبيرة من ضباط الاحتياط، في سبيل وضع خطّة متعدّدة السنوات هي خطة الزخم (تنوفا) لاستكمال جهوزية “الجيش” الإسرائيلي، من خلال ما يمكن تسميته وضع الخطة التفصيلية لكيفية تحقيق النصر من قبل هذا “الجيش” على المستوى الاستراتيجي العملياتي. بمعنى آخر، وضع خطّة الحرب وتأهيل كلّ الوحدات القتالية باختلاف أشكالها للقيام بدورها في تلك الخطة والتدرّب عليها وتوفير كلّ ما يلزم لإنجاحها. ومن الجدير بالذكر أنّ خطّة الزّخم ركّزت بشكل أساسي على دوائر التهديد الأولى، وهي حزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
الفكرة الرئيسيّة لخطة “الزخم”
تحقيق إنجاز عسكريّ عالٍ في وقت قصير قدر الإمكان، وبثمن منخفض قدر المستطاع، بالاعتماد على إحداث صدمة كبرى في جانب المقاومة، من خلال عملية اشتراك متكاملة بين كلّ أذرع “الجيش” الإسرائيلي من اللحظة الأولى من المعركة، مع تأكيد دور المناورة البرية – الدخول البري – فمن دون الدخول المكثّف للقوات، لا يوجد أي فرصة لتحقيق النصر الذي حدَّده كوخافي لخطته، وهو تدمير 50-60% من قوات العدوّ ومقدراته في أقل وقت ممكن، وبأقل الأثمان، وخصوصاً في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، مع التأكيد أنَّ الدخول البري هدفه تدمير قدرة العدو، وليس احتلال الأراضي.
لا يتأتّى إحداث الصّدمة، كما تهدف إليها خطّة “الزخم”، إلا من خلال إحداث حالة تكامل بين أذرع “الجيش” الإسرائيلي في المعركة منذ لحظة البدء، والتي ستكون بالتأكيد مفاجأة، مع تأكيد دور سلاح البر في إحداث الصدمة الكبرى.
بناءً عليه، من الممكن القول إنَّ الأهداف الأساسيّة وراء الخطّة:
استراتيجياً: إحداث حالة تكامل بين أذرع “الجيش”، مع تأكيد دور سلاح البرّ في إحداث الصدمة الكبرى.
تكتيكياً: بناء قدرة عقليّة ذهنيّة جسديّة على مستوى الجنديّ المقاتل في الميدان.
أهمّ ما تم إنجازه من خلال خطّة الزّخم “تنوفا”
· إنشاء وحدة قتاليّة ميدانيّة يطلق عليها “وحدة متعدّدة المستويات”، وتعتبر وحدة نخبة النخبة في “الجيش” الإسرائيلي، حيث تدمج في داخلها القدرة القتالية الفائقة مع القدرة الكبيرة على تحليل المعلومات الاستخبارية والتعامل مع الأجهزة التقنية. كلّ ذلك في ميدان المعركة، وبشكل مباشر، إضافةً إلى ربط تلك الوحدة من خلال الجندي في ميدان المعركة مع كل أذرع “الجيش” (الطيران، المشاة، البحر)، وامتلاكها الصلاحيات لإعطاء أوامر مباشرة لتفعيل قدرات تلك الأذرع بشكل مباشر وسريع.
·إحداث تطويرات مهمَّة في الوحدات التكنولوجية في شعبة الاستخبارات العسكرية في “الجيش” الإسرائيلي “أمان”، وخصوصاً وحدة “8200” للتنصّت والمراقبة الإلكترونية والتعقّب، إضافةً إلى تطوير كبير طرأ على وحدة “9900” المختصّة في الدراسة الهندسيّة الأمنيّة، ومن أهم وظائفها تجهيز خرائط هندسية ثلاثية الأبعاد لبنك الأهداف المطلوب التعامل معه عسكرياً، ناهيك بالاعتماد على طائرات الاستطلاع من دون طيار في جمع المعلومات الاستخبارية بشكل كبير، مع إدخال نوعيات أكثر حداثة إلى الخدمة العسكرية.
· العمل على الدمج والتكامل الفوري والسريع بين سلاح المشاة وسلاح الجو والقوات الخاصَّة والاستخبارات العسكرية، إذ تمَّ تأسيس ما يُسمى “إدارة الأهداف”، ووظيفتها تحويل المعلومات الاستخبارية إلى أوامر تنفيذية لتدمير الهدف على كل المستويات، وصولاً إلى المجموعة المقاتلة على الأرض “الميدان”.
المعوّقات أمام خطّة الزخم “تنوفا”
1. يعتبر توفير الموازنة اللازمة لتنفيذ خطّة “الزخم” الطموحة، كما يصفها البعض في “إسرائيل”، من أهم المعوّقات الكامنة أمامها. من الجدير بالذكر أنَّ الخطة تم اعتمادها من قبل “الجيش” الإسرائيلي، في ظلّ حكومة تسيير أعمال في “إسرائيل”، الأمر الّذي نتج منه عدم تحديد الزيادة اللازمة على موازنة “الجيش” من أجل تنفيذها.
اعتمد كوخافي على إعادة تدوير موازنات “الجيش” مع العديد من التقليصات في الموازنة من أجل البدء بتنفيذ خطة “الزخم”، ولكن من الواضح أنّ استمرار عدم إقرار موازنة للحكومة يؤثر سلباً في الخطة، وخصوصاً أنَّ هناك أزمة اقتصادية خانقة في “إسرائيل” جراء وباء كورونا، الذي أدى إلى تراجع الاقتصاد الإسرائيليّ إلى درجات غير مسبوقة، إذ صرّح مكتب الإحصاء الإسرائيلي الحكومي أنَّ الاقتصاد المحلي تراجع في الربع الثاني 2020 إلى أكثر من 28%، مسجلاً أسوأ مستوى منذ نحو 40 عاماً، بحسب البيانات التاريخية للناتج المحلي الإجمالي.
الوضع الاقتصادي المعقَّد في “إسرائيل” مع استمرار موازنة الطوارئ للحكومة يضع علامات استفهام كبيرة على قدرة “الجيش” الإسرائيلي على إتمام خطة كوخافي الطموحة، حيث تتطلب زيادة موازنة الجيش بالتأكيد تقليص موازنات قطاعات اجتماعية وتنموية أخرى، الأمر الذي من الصَّعب على أي حكومة القيام به، في ظلّ الأزمة الاقتصادية وحالة الاستقطاب الاجتماعي الحاد في ظل أزمة كورونا داخل “إسرائيل”.
- يدرك كوخافي أنَّ إنجاح خطة الزخم يتطلّب استبعاد كل الحسابات السياسية منذ لحظة إعطاء المستوى السياسي الإسرائيلي الأمر في دخول الحرب، الأمر الذي يتطلّب أجواء سياسية هادئة في الساحة السياسية الإسرائيلية، بعيداً من حالات التجاذبات والاستقطابات الحادة.
لذلك، إنّ حالة عدم الاستقرار السياسي الحالي في “إسرائيل”، وعدم استقرار الائتلاف الحكومي، والانقسام الكبير في الحالة الاجتماعية والسياسية، تعتبر كلّها مؤثرات سلبية في إتمام خطة “الزخم”، وخصوصاً أن حالة عدم الاستقرار الحكومي باتت تجرّ “الجيش” إلى حلبة المناكفات السياسية، الأمر الَّذي لطالما حاول “الجيش” الإسرائيلي الابتعاد عنه، ناهيك بقرار حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وبالتالي عملياً تأجيل عملية إقرار الموازنة العامة للحكومة.
- أثبتت حروب “إسرائيل” مع المقاومة، سواء في لبنان أو في غزة، أنَّ خاصرتها الرّخوة هي الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فما زال وضع الجبهة الداخلية الإسرائيلية يعاني من عدم القدرة على إحداث تغيرات جوهرية في تحصين الجبهة الداخلية، ويدرك “الجيش” الإسرائيلي أن الاعتماد على تطوير منظومات الدفاع الجوي ليس حلاً لمعضلة صواريخ المقاومة، وخصوصاً مع ازدياد كمّيتها وتطوّر نوعيّتها ودقّتها.
لذلك، يحاول كوخافي تعزيز فكرة داخل المجتمع الإسرائيلي بأنَّ الجبهة الداخلية يجب أن تكون قادرة على الصمود في المواجهات القادمة. وفي أكثر من مناسبة، أكَّد كوخافي “أن زمن الحروب الديلوكس انتهى”، وأن “المستوطن في تل أبيب لن يستطيع الجلوس في مقهى واحتساء القهوة أثناء الحرب القادمة”. ويبدو أنّ الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة ما زالت غير مهيأة وغير متقبلة لفكرة أن أيّ معركة مقبلة ستطال أغلب المدن الإسرائيلية، إن لم يكن كلّها.
- رغم تحقيق العديد من الإنجازات والتطويرات من قبل خطة الزخم، فإنَّ ثمارها لم تطَل كل أذرع “الجيش” الإسرائيلي، وخصوصاً سلاح المشاة الإسرائيلي. بمعنى أكثر دقّة، تعتمد الخطّة على تطوير وحدات نخبوية خاصة بسلاح المشاة، ولم تنتشر لتشمل كلّ وحدات المشاة النظاميّة والاحتياطيّة.
من الجدير بالذكر أنَّ تطوير الوحدات النخبويّة يتناسب مع تركيز كوخافي على دائرة التهديد الأولى (غزة وحزب الله)، ولكن ذلك يتناسى التغيّرات الاستراتيجية الطارئة في المنطقة، إذ إنَّ أي معركة مع حزب الله من الممكن أن تتدحرج إلى حرب على أكثر من جبهة لا تستطيع الوحدات النخبوية التعامل معها من دون تجنيد قوات كبيرة من “الجيش” الاحتياطي، الذي يعاني من قلّة التدريب وتقادم عتاده العسكري بالنسبة إلى الوحدات النظامية النخبوية.
وفي الخلاصة، مرَّت سنتان على وجود كوخافي في رئاسة الأركان، بحيث أحدثت خطة “تنوفا” تغييرات ملحوظة في كفاءة “الجيش” الإسرائيلي، لكن من الواضح أنَّ المعوّقات التي تواجه كوخافي لإنجاح خطته بشكل تام مرتبطة بعوامل لا يمتلك “الجيش” الإسرائيلي القدرة على التحكّم بها، ما يضع علامات استفهام كبيرة على قدرته على إتمام خطّة الزخم “تنوفا”.
نقلاً عن موقع الميادين – نت