حرب القدس.. مقدسة وأممية
سمير الحسن
“القدس عروس عروبتكم”، قالها الشاعر العراقي مظفر النواب منذ عقود. لم يتلقف العرب النداء. كأن في داخل العرب ما يوحي أن القدس عروس العالم، وعاصمته، وليست حصراً عربية، ولا هي مسؤولية العرب. لذلك نرى كثيرين من غير العرب معنيين بقضيتها، ينتصرون لها، ويعتبرونها جزءاً من أفئدتهم. لا بد من العودة إلى التاريخ. القدس تمثل ضمير الغالبية الساحقة من البشر. فيها مولد السيد المسيح وقيامته، وهما عنصران جوهريان في المعتقد المسيحي. فيها الأقصى، حيث أسرى الله بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا عنصر في جوهر المعتقد الإسلامي. وتشكل المسيحية والإسلام أكثرية سكان الكرة الأرضية، وبذلك تشكل القدس نقطة التقاء عالمية، وكل فئة من الناس تعتبرها متعلقة بها، ولها صلة “ما” بالقدس. وفي التاريخ أيضاً، جاءت الحملات الصليبية إلى الشرق في هجمة استعمارية استمرت زهاء مائتي عام. كانت الحجة هي تحرير القدس من أيدي المسلمين الذين سيطروا عليها في زمن الفتوحات الإسلامية. إحتج الأوروبيون من أن المسلمين يعرقلون قيامهم بفريضة دينية هي في صلب معتقدهم، أي الحج إلى القدس. كذلك إحتجوا من أن قطاع طرق ينتشرون على مسافات طويلة بين أوروبا وشرق المتوسط حيث تقع القدس، وهؤلاء يشكلون خطراً على قوافل الحجاج المسيحيين الآتين من أوروبا براً. المسلمون يعتبرون القدس مُكملة لحجهم، فبعد الحج إلى مكة، حيث المسجد الحرام، وجبل عرفة، وكل ما يتعلق بتفاصيل الحج، على المسلم أن يحج إلى القدس حيث قبة الصخرة، والمسجد الأقصى عملاً بالآية القرآنية: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى”. والشهير في هذه الرواية أن الخليفة عمر بن الخطاب جاء فاتحاً القدس، ولما وصل باحة كنيسة القيامة، إنكفأ ولم يدخلها فاتحاً احتراماً لقدسيتها، وأدى صلاته في زاوية من باحتها الواسعة حيث قام المسجد الأقصى. وفي أواخر القرن التاسع عشر، عندما رغبت روسيا القيصرية بالتوسع نحو الشرق الأوسط، كانت القدس قبلتها، وحجتها، واعتمدت تأمين طريق القدس أمام الحجاج الروس، المدينين بالأرثوذكسية، إلى القدس. الحجة عينها التي استخدمها الصليبيون الكاثوليك، استخدمها الروس الأرثوذكسيون، واستطاعوا دخول المنطقة عبرها. ولئن ثبّت الصليبيون وجودهم في الشرق زهاء مائتي عام، فإن الروس خرجوا منها بنهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يكن بقاؤهم في الشرق طويلاً، كما فعل الصليبيون. اليوم، تتصاعد المواجهة بين الفلسطينيين العرب، والإسرائيليين في صراع أشبه بالصراع المقدس لاستعادة كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، وتحريرهما من أيدي الصهاينة، وقد سطّروا مواجهات كبيرة، وتقدماً ملحوظاً في عملية الصراع المستمرة لإستعادة القدس كرمز مقدس لأغلبية سكان الأرض وفي العصر الحديث، ظلت القدس قبلة الأغلبية الساحقة من سكان الكرة الأرضية من مسلمين ومسيحيين، يحجون إليها كل في موسمه. أما اليهود، فالتاريخ ملتبس على حقيقة حكمهم للقدس، فعندما كان فيها اليهود، لم تكن مدينة مقدسة لأن الذي فرض قدسيتها هي الرواية الدينية المسيحية على يد الأباطرة الرومان الذين اعتنقوا المسيحية في مرحلة متقدمة من التاريخ الروماني. نبش اليهود تاريخاً مقدساً لهم بحائط ملكهم سليمان، وقبر نبيهم داود، وراحوا يبحثون عن آثار لهم تحت كنيسة القيامة، وقبة الصخرة، وفي نطاق الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس، واستطاعوا فرض معتقدهم بالقوة التي منحتهم إياها الحالة الاستعمارية الأوروبية الصاعدة التي فرضت، بقوتها وصعودها، قيام الدولة اليهودية الصهيونية ـ إسرائيل – في فلسطين بالقوة والحروب. لا ينفي أحد الوجود اليهودي في فلسطين، فالمسيح كان يهودياً قبل نزول رسالته، وكان نبياً مصلحاً للبشرية بصورة عامة، لكن بالصورة المباشرة، كان إصلاحياً للمجتمع اليهودي الذي اكتسى بالكثير مما يعرض الإنسانية للمخاطر، وجاءت تعاليم السيد المسيح لدرء مخاطر الفساد الطاغي على المجتمع اليهودي في فلسطين. ظلّت القدس محجة لأكثرية الناس، وللعرب حتى حرب ١٩٦٧، التي عرفت بالنكسة، فاحتلتها إسرائيل، وتوقف الحج العربي – المسيحي والإسلامي – إلى القدس نظراً لرفض العرب الدخول إليها تحت السيطرة الإسرائيلية، وعند توقيع اتفاقية أوسلو، وقيام سلطة فلسطينية أعطيت بعض سيطرة على مقدسات القدس، أمكن لكثيرين من العرب الحج عبر أذونات غير سهلة من السلطة الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين، بدأ الفلسطينيون العرب يحاولون استعادة ما أمكن من القدس، ومقدساتها، وحققوا إنتصار الدخول إلى المسجد الأقصى من دون العبور تحت السيطرة الإسرائيلية، بينما تمكن كثيرون من العرب الذين حملوا جنسيات أجنبية، من زيارة القدس، والحج إليها، لكن بعبور الحواجز الإسرائيلية، وبرضى الإسرائيليين. اليوم، تتصاعد المواجهة بين الفلسطينيين العرب، والإسرائيليين في صراع أشبه بالصراع المقدس لاستعادة كنيسة القيامة، والمسجد الأقصى، وتحريرهما من أيدي الصهاينة، وقد سطّروا مواجهات كبيرة، وتقدماً ملحوظاً في عملية الصراع المستمرة لإستعادة القدس كرمز مقدس لأغلبية سكان الأرض. ما يجري في القدس يؤكد المؤكد. للمدينة المقدسة رمزيتها التي تعيد توجيه البوصلة في الإتجاه الصحيح.