لماذا “النبي نشأت” خطير حقاً؟
مبتذل، ركيك، مضحك، كاريكاتور غير متقن عن فكرة النبي؛ هذا هو حال نشأت منذر الذي لم يكن معروفاً حتى ظهوره قبل أسابيع قليلة رفقة الفلكية كارمن شماس التي أعلنته رسولاً. إعلان شماس يمكن تشبيهه بإزاحة الستار عن مسرحية فكاهية، ليأتي بعده بعض الجمهور بدافع التسلية، وبعضه الآخر بدافع الفضول، ثم تتسع دائرة الوافدين إلى العرض من أجل التسلي واللهو.
الطريف في الأمر أن جمهور النبي المزعوم هو بغالبيته ممن لا يأخذونه إطلاقاً على محمل الجد، ويتفاعلون معه بتعليقاتهم بما يتراوح بين الهزل الفاضح والهزل الذي يتصنع الجد. الذين يناقشونه، أو يشتمونه غالباً، بجدية حقيقية يبدون مثيرين للضحك إلى درجة لا تقل عن أولئك الذين تتوخى تعليقاتهم إثارته. المفارقة بين أولئك الجادين والجو العام الهزلي كاريكاتورية أيضاً، وكأنهم وقعوا في الشِباك التي أتوا بقصد تفكيكها.
تعالوا نتجاهله تماماً؛ يقولها مثقف حريص على عدم الوقوع في الإسفاف. إنه على الأقل يدعو أمثاله من المثقفين ليتجنبوا على نحو جماعي ما لا يستطيع، أو ما لا يريد “الغوغاء” تجنبه. مشكلة هذا النوع ليست مع ادعاء النبوة في حد ذاته، بل مع ما يراه انحطاطاً من أي صنف أتى، والمشكلة أن الحياة ولّادة للتنوع ولا تبخل بـ”الانحطاط”، ويفشل المثقف مع كل مواجهة جديدة، يفشل كداعية للتجاهل حتى بين نظرائه.
إنه صرعة من صرعات وسائل التواصل الاجتماعي، ستأخذ مداها قبل أن تتلاشى كأنها لم تكن، أو قبل أن تصبح نكتة بائتة لا تضحك أحداً بمن في ذلك من ضحكوا منها في الأمس. هذا رأي عقلاني، مبني على الاستدلال، وتلويحه بأن ما هو هزلي اليوم سيكون سمجاً في الغد منطقي ومُختبَر مراراً، إلا أن التلويح بالغد لن يثني أولئك الراغبين في المتابعة حتى مجيء ذلك الغد.
ربما باستثناء فئة صغيرة من الجادين في التعاطي مع النبي المزعوم، أو حتى في محاولة نصحه وهدايته، باستثناء هؤلاء تكاد الغالبية “من طلّاب الترفيه واللهو ومن المحجمين عنهما” لا ترى خطراً في الظاهرة. ردود الأفعال أتت مستنكرة أو مستغربة مبادرة دار الفتوى إلى رفع دعوى ضد نشأت منذر، ومثلها موقف مشيخة العقل، وعلى الأرجح هذا هو موقف جميع المرجعيات الدينية، أعلنت أو لم تعلن، بادرت إلى التصدي له أو لم تبادر.
ما يزيد الأمر طرافةً ذلك الاستنكار الذي يربأ بالمرجعيات الدينية عن النزول إلى مستوى نشأت، وإعطائه بذلك قيمة لا يستحقها. كأن تلك المرجعيات “في كافة البلدان” عكفت دائماً على ما هو أجلّ وأخطر، وانشغلت طوال الوقت بهموم الجماعات التي تزعم تمثيلها، أي بهموم عيشها لا بكيفية إيصالها إلى الآخرة على النمط الذي تراه مناسباً لها.
الحق أن دار الفتوى ومشيخة العقل تدركان جيداً خطر نشأت منذر، الخطر الكامن في كل ما نستهين به عندما نصفه بالابتذال والركاكة والسفاهة. هنا بالضبط مكمن الخطورة؛ ادّعاء المقدّس على نحو شديد التهافت، على نحو مضحك لا لأنه مضحك بذاته، بل لأنه مضحك بالمقارنة مع النموذج المكرَّس عن النبوة، أو بالمقارنة مع مخيال الغالبية العظمى عنها، سواء آمن المنتمون إليها أو لم يؤمنوا.
يخسر “النبي نشأت” إذ يقدِّم نفسه رسولاً سماوياً، فالمقارنة الواعية أو غير الواعية التي يجريها متابعوه ستؤول بلا تردد إلى: لا.. ليس هذا بنبي حقيقي. إلا أنه في هذه اللحظة تحديداً يكسب المقايسة ذاتها، شعورية كانت أو لاشعورية، هو يكسب كلما قارنه أحد ما بنبي ما، ثم استبعد المقارنة وسخر منه ومن مزاعمه. قد يكسب أيضاً، وهذا احتمال ضئيل جداً وغير معدوم، بعض المؤمنين به، فللإيمان “أو نقيضه” منطق لا يطابق دائماً مناهج الاستقراء المعتادة.
سواء تعمَّد ما يفعل أو لا، وعى مدى ما يفعله أو لم يعِ، فـ”النبي نشأت” بمقدار تهافته يمسّ بالمقدَّس. التهافت ذاته متوفر بكثرة خارج ميدان المقدس فهو “على سبيل المثال” لا يرى تناقضاً بين دفاعه عن الحيوانات المسكينة التي تُقتل بقصد الأكل وممالأته الأسد المغرم بلحوم السوريين. ولتفاهته مرة أخرى، يبدو التوقف عند أي تفصيل كالتفصيل الأخير نوعاً من إلباسه عباءة نظرية المؤامرة الفضفاضة جداً على مقاسه.
وإذا كانت دعوى دار الفتوى تتحسس ما هو خطير في العرض الذي يقدّمه النبي المزعوم، فإنها “كأية سلطة دينية” لديها فائض من الانتباه إلى كل ما يمس هذه السلطة، والأمر لا يُناقش بشدة التهديد، ففي الحيثيات المطلوب ليس محاكمة نشأت منذر وسجنه فحسب، بل قطع الطريق على من تسوّل له نفسه ادّعاء النبوة لاحقاً. لم يعد أي زعم يكلّف صاحبه أكثر من إنشاء حساب على وسائل التواصل الاجتماعي، وإنشاء العديد من الحسابات الاحتياطية تحسباً من التبليغ عنه، ليبدأ بعدها رمزياً بالمنافسة. دعوى دار الفتوى تقول أن السلطة لها ولمثيلاتها، كانت وستبقى رغم الهيمنة المستجدة لوسائل التواصل، وما تنذر به على صعيد خلخلة المنظومات القديمة جميعاً.
لقد اختبرنا من قبل بما يكفي “عربياً على الأقل” حرّاسَ الإيمان، أولئك الذين لا حساسية لديهم ليظهروها إزاء مشاكل المؤمنين التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. بل رأينا كيف تتواطأ جميع السلطات والأيديولوجيات الدينية وغير الدينية على تشخيص يتجاهل المشاكل الفعلية، لتُطرح حلول غير قابلة للتحقيق أصلاً، بمعنى أنها تنتمي إلى العدمية السياسية. لا يأتي “النبي نشأت” بجديد إذ يطرح حلولاً كبرى سحرية لمأزق الحياة، فهو بهذا يحاول أن يحجز له مكاناً بين هؤلاء، لذا ينال نقمتهم في حين يقابله بالسخرية والمرح الذين ليس لديهم سلطة ولا يتمثّلون أية سلطة. لا يجهد نشأت منذر كالآخرين لإخفاء تفاهته، والخطأ الوحيد الذي يرتكبه بحكم زعمه النبوة أنه يستدعي مقارنته بأنبياء من عهود سحيقة، بينما من الأولى أن يُقارَن بأشباهه المعاصرين.