غزة | إحدى عشرة ذراعاً عسكرية شاركت في النسخة الثانية من مناورات «الركن الشديد»، التي استمرّت فعالياتها بالذخيرة الحيّة على مدار أيّام، واختُتمت وسط أوضاع ميدانيّة ساخنة، وأجواء سياسيّة ملبّدة بالتعقيدات، أقلّه في ملفّ إعادة الإعمار المتأزّم، وصفقة تبادل الأسرى المتعثّرة، وهما الملفّان الكفيلان بوضْع القطاع على شفير المواجهة من جديد. في موقع «شهداء القسام» الممتدّ على مئات آلاف الأمتار، أقصى غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، احتشد المئات من الجنود، بزيّ عسكري موحّد، ومن دون عصائب تُميّز انتماءاتهم الحزبية، وفي مقدّمتهم العشرات من القيادات العسكرية لفصائل المقاومة. وعلى رغم أن هؤلاء ظهروا لأوّل مرّة حاسري الوجوه، إلّا أنّك ستظلّ بحاجة إلى مَن يُعرّفك على شخصياتهم، ذلك لأن أكثرهم لم يسبق لهم الظهور أمام الإعلام.
عصر الأربعاء، وقف الضابط الميداني على خريطة ومجسّم لميدان المناورات، مستعرِضاً أمام القيادات العسكرية خطّة المناورة وأهدافها، قبل أن يطلب الإذن بإطلاق فعالياتها. شرح العسكري: «ستقوم الزُمر المقاتِلة من مختلف التخصّصات، بتنفيذ محاكاة لعملية إنزال خلْف خطوط العدو، بهدف أسْر جنود إسرائيليّين، وسيواجه المقاتلون عدداً من العوائق الميدانيّة المتمثّلة بالقصف من الطيران المسيّر والدبّابات ومدفعيّة الاحتلال، قبل أن ينسحبوا من الأنفاق التي دخلوا فيها إلى موقع العدو، فيما ستقوم فرق الإسناد الناري بتحييد الأخطار التي تُحيط بهم». أعطى القائد العسكري الإذن، وبدأت وحدة الاقتحام بالتقدّم الميداني عبر نفق أرضي محفور مسبقاً. وفي الميدان، ظهرت ثلاث دبّابات تُشابه في قياسها وشكلها أسطورة «الميركافا» الإسرائيلية. وفي السماء، طائرة مُسيّرة تحاول إحباط الهجوم. وخلال دقائق معدودة، بدأت العملية باقتحام الدشم العسكرية، ثمّ تدخّلت وحدات الإسناد لتغطية انسحاب المقاومين الذين حملوا على أكتافهم جندياً أسيراً.
27 دقيقة من القتال الافتراضي، تدرّبت فيها الوحدات المقاتِلة، بالذخيرة الحيّة، على استخدام أنواع الأسلحة كافة، بما فيها الرشّاشات الثقيلة والأسلحة الفردية، والعبوات الناسفة، وقذائف «الهاون»، وقذائف «الآر بي جي»، إضافة إلى العبوات الناسفة والقنابل اليدوية. المقاتِلون الذين هُم مزيج من الأذرع العسكرية كافّة، أبدوا انسجاماً لافتاً في الميدان، ومرونة تُدلّل على تقدّم كبير في مستوى التنسيق الميداني بين الأذرع العسكرية، التي انضوت منذ ثلاثة أعوام في تشكيل واحد أُطلق عليه «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة»، والتي تحدّث باسمها القائد في «كتائب القسام»، أيمن نوفل، في أوّل ظهور علني للرجل، منذ خرج في عملية هروب معقّدة من السجون المصرية عام 2011. وقال نوفل إن «مناورة الركن الشديد تبعث برسائل إلى العدو والصديق؛ إلى الصديق بأن المقاومة وضعت قضية الأسرى على سُلّم أولويات الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة، وإلى العدو بأن الجدران والإجراءات الهندسية التي يجريها على حدود قطاع غزة لن تحميه، وهذا ما أثبتته المعارك السابقة، وستكون للمقاومة كلمتها في موضوع الأسرى». وأوضح قائد ركن جهاز الاستخبارات العسكرية في «القسام» أنه «تمّ اختيار هذا الموقع العسكري، كونه الموقع نفسه الذي تدرّب فيه المجاهدون الذين أسروا الجندي جلعاد شاليط، هذه العملية ستُعاد، ولن يهدأ لنا قرار حتى نُحرّر أسرانا من السجون». وختم نوفل، الذي لم يبدِ تجاوباً مع فيض التساؤلات التي غمره بها الصحافيون، بأن «القُوّة التي نراكمها هنا، ليست مقتصرة على قطاع غزة وحده، إنّما هي للدفاع عن شعبنا في كافة أماكن تواجده، وعلى رأسها مدينة القدس المحتلة».

أتمّت المقاومة مناورتها، على رغم أن ساعات الظهيرة شهدت وقائع ميدانية هي الأولى من نوعها منذ انتهاء معركة «سيف القدس»، بعد أن أطلق قنّاصٌ النارَ على أحد المستوطنين المتعاقدين مع جيش الاحتلال للعمل في بناء الجدار، وأصابه إصابة متوسّطة. وعلى إثر ذلك، أغارت مدفعية الجيش الإسرائيلي على أربع نقاط عسكرية لقوّات «حماة الثغور»، فضلاً عن قصفها عدداً من المزارعين في منطقة بيت حانون شمال القطاع، ما أدّى إلى إصابة ثلاثة مواطنين بجروح متفاوتة. وعن كواليس الساعات التي سبقت إجراء المناورة، أكد مصدر أمني أن الاحتلال أراد أن يدفع المقاومة إلى إلغاء التدريب، لكنّ قراراً اتّخذته أعلى المستويات العسكرية في الفصائل، أفضى إلى إتمامها؛ إذ إن ثمّة قواعد اشتباك قائمة، لا يمكن للعدو تجاوزها «في لحظة طَيْش».
جملة من الرسائل اختارت المقاومة أن تغلق بها العام الجاري، أهمّها أن نهج خطف الجنود لتحرير الأسرى، ليس مطروحاً للنقاش أمام ضغط المتطلّبات الحياتية؛ وأن صفقة التبادل يجب أن تتمّ وفق القواعد التي وضعتها الفصائل، وهي «أسرى مقابل جنود»، وليس «جنوداً مقابل إعادة الإعمار أو التسهيلات». وإلى جانب ذلك، تريد المقاومة أن تُدشّن طابعاً جديداً في العمل العسكري، عنوانه الشراكة الكاملة، ليس في مواجهة التهديد الإسرائيلي فقط، إنّما في تَحمّل تبعات العمل المبادر، حيث القرار الآن هو وضع تحرير الأسرى إلى جانب الخطوط الوطنية الحمراء، على رأس الأولويات، وهنا، لا بدّ من أن يكون الفعل العسكري جامعاً، لأن المجموع بكلّه سيتحمّل تبعات الردّ الإسرائيلي.