الاستقلال المحاصر
يصعب الحديث عن استقلال لبناني ناجز، بعد مرور عقود من السنوات، على إعلان الاستقلال رسمياً، والاحتفاء به من قبل بعض من “الشعوب” اللبنانية، واللامبالاة به من قِبَل بعض آخر، والتوجّس منه من جانب جمهرة سكّانية، أضافها “صانعو” الاستقلال اللبناني من لبنان الصغير إلى ما بات يحمل إسم “لبنان الكبير”.
نسبية الاستقلال
عند الحديث عن فحوى الاستقلال الوطني، وعن مدى واقع ووقائع هذا الاستقلال، يحاذر الكلام عدداً من “المبالغات” التي لا تنتمي إلى السياسة، بأبعادها الداخلية، وبالأبعاد الخارجية المتصلة بالداخل، والمتواصلة معه.
من المبالغات الاستقلالية، رَفْع شرحها، إلى الدرجة التي تحيلها فرضية انعزال، أو إنزالها إلى الدرجة التي تجعلها جسر اتصال يعبره “المارّون”، من دون جديّة التوقف أمام المساءلة، أو حتى السؤال.
واقع الحال، أن في كل استقلال معادلة دَمْج بين كثير من الداخل، وكثير مناسب من الخارج. وفي كل استقلال، كثير من الاتصال والتواصل، وكثير من الضمانات الإجرائية الحَذِرة، التي تمنع اضمحلال الحدود، بين كَثْرَة سياسية داخلية، وكثرة سياسية خارجية. هو توازن مصالح، يقتضيه استقرار البنية الوطنية، في علاقتها مع العالم السياسي الأرحب، الذي تنتمي إليه وتتفاعل مع مصالحه.
وفاقاً مع ذلك، وفي سياق الانخراط في عملية “مشاركة” التوظيفات، وفي جَنَى عائداتها، تتراجع “خَيَالية” المعنى الاستقلالي، أمام واقعية بنائه، وأمام ضرورات تطويره، ليكون استقلالاً قابلاً للحياة. في إطار هكذا مقاربة لمعنى الاستقلال، تتساوى الاستقلالات، ويضمر الفرق بين دولة عظمى ودولة صغرى. هذا لأن كل دولة ذات سيادة تبني مقولاتها وسياساتها على قاعدة الاعتماد المتبادل بين كل الشعوب.
قياسا على القاعدة المساواتية، التي مضمونها المصالح، يعود إلى الداخل أمر الصياغة. ففيه وفي مؤسساته وفي استجابة بنيته وفي آليات إنتاج “مجتمعيته”، بكل عناصرها، يجري تركيز الاستقلال الواقعي، أو يتم التفريط بكل ما من شأنه أن يرصف الطريق إلى هذا الاستقلال.
إخفاق اللبنانية
لم تنجح “اللبنانية” الناشئة، في استكمال ضرورات استقامة نشأتها، فأخفقت في صناعة مادّة استقلاليتها، وما زالت تتمادى في تبديد ما توفّر لها من عناصر تأسيسية مساعدة.
الإشارة إلى “اللبنانية” أساسية، وتأسيسية. فهذه مازالت تعادل تعريف “الهُويّة” الوطنية، التي لمَّا يأتلف السكان على تعريف مضمونها.
عامل الهوية معضلة نشوئية، وموضوع خلاف سياسي مُسْتَدَام، ومصدر تعريفات متقابلة، تعتمدها المجموعات التي تَشغل المساحة الجغرافية الواحدة.
قصور لبنانية المجموعات، وتقصيرها عن جَدِّ السير في طلبها، أمران استدعيا أزمة في إثر أزمة، داخلياً، فتَرتّبَ على ذلك تدخّل خارجي متعدد الأطراف، ومتنوع الأهداف. وقليلاً ما كان الدخول الخارجي دخولاً “بَرّانيّاً” خالصاً، بل كان في الحالة الغالبة عليه، شكل استدعاء “جوّانِي”، تستقوي به فئة أهلية بعينها طلباً للحماية، أو تَوَخّياً للاستقواء، أو انخراطاً في مشروع سياسي، ما فوق محلّي.. وكل ذلك، كان مرفقاً بتبرير “إيديولوجي”، الواقعي المعقول منه قليل، والتضليلي التهويمي فيه كثير، أمّا خسائر اللبنانية فكانت وما زالت كارثية على كل صعيد.
لبنانية اليوم
ينبغي الاعتراف أولاً، بأن اللبنانية تمرّ في نفق استعادة أزمتها الأولى. هي اليوم في حالة انفكاك، وفي وضع مباشرة رحلة عودة إلى ما قبل زمن إعلان استقلالها. من محطات السفر إلى الماضي، هاجس الذوبان، وهاجس الخسارة، وهاجس فقدان “الذات” والهوية، وما علق بهذه وتلك من تعريفات. هذا إذا أَرَدْنا نسبته إلى مجموعة طائفية لبنانية، لقلنا إنه هاجس مشترك لدى” المسيحية” عموماً.
يقابل ذلك، ولدى “الإسلامية” عموماً، حنين العودة إلى المحيط الأوسع، ببعديه العربي والإسلامي، مع ما يعتمل ضمن هذا الحنين من طلب التفوّق، ومن طلب السيطرة، ومن طلب الحكم والتحكّم، فيعود لبنان الجغرافيا ليشبه “أشقاءه” بنيوياً، بعد أن يعيد الوصل معهم جغرافياً، من خلال توحيد داخلي طوعي بعيد، أو من خلال قولبة توحيدية قسرية تبدو ممكنة التحقق والمنال.
إذا أخذنا بحقيقة هذا الواقع الانشقاقي، لقُلْنَا إن لبنان محاصر داخلياً، بافتراق مجموعاته. والافتراق صِنْو الانفصال” النفسي” في بداياته، وهو الفصل المادي في مآله عندما تتوفّر إمكانيات الانفصال.
على الحالة اللبنانية الراهنة، دخلت عوامل الفصل الخارجية ففاقمت الأحوال، وعاد المنفصلون الداخليون لتغذية الاندفاعة الخارجية، بعوامل افتراقهم الحقيقية. النتيجة الواضحة للعيان، نشوء حصار مُرَكّب، تضافر فيه الداخل مع الخارج بشكل معلن، ومن دون حَرَجٍ من قبل طالب المُسْتَقْوِي، أو من قبل المُسْتَقْوَى به. فظاظة الإعلان عن التبعية السياسية أو الإيديولوجية، باتت تلامس الاستخفاف بمجموع المُتَضرِّرِين منها، ولا تقصّر في مجال الإعلان عن الهزء العملي بمجمل المصالح العمومية.. ممّا لا تستر مساوءه كل “الأدلوجات” المنبرية.
إذن، ممّا تقدم، وعلى وجوه كثيرة، يقتضي القول، إن مصطلح اللبنانيين لم يعد مطابقاً للمقصودين به. فهؤلاء لبنانيون على لبنانيات شتّى، وهذه لا يدور الشطر الأوسع من مضامينها على اللبنانية التي أضمرتها المجموعات التكوينية، ولا تخاطب افتراضاتها القسم الأوسع من فهم اللبنانية، الذي جمعه التلامذة من دروس “التنشئة الوطنية”.
خطورة اللحظة
يحيق الخطر بالكيانية اللبنانية، ويعيد تضييق نطاق محاصرتها. هذه ليست لحظة الحصار الوحيدة، بل يجب تنسيب كل الأزمات الداخلية، المنصرمة والمقيمة، بصفتها محطات حصار. المحاصرون، كما ورد، تجمعهم سلسلة متعددة الحلقات. هؤلاء تباروا بالأمس في ملعب الاستقلال، وهم يتبارون الآن، وقد صار البلد واستقلاله ملاعب. ساكن البلد لاعب في فريق خارجي. المرمى من دون حارس. الحصار من خارج رديفه هدم الأسوار من الداخل، وبمعاول أبناء كل داخل. في مضمار الحصار، تساوى الشقيق مع الصديق، ولا عجب في ذلك، في ظلّ استنفار الشعوب اللبنانية في مواجهاتها البينيّة.
ماذا يلوح في الأفق، وحتى حين متوسط المدى؟ ليس أقلّ من لمعان نصال القسمة، مادام المتساكنون على مضض يتبارون في شحذ السكاكين التفكيكية. وممّا يدعو إلى استشعار الخطورة الداهمة أن جماعات “الغرائز” لا تحسن صناعة انفكاك حسن الجوار.. هذا لأن طبع “الغَزْوَة” ما زال أصيلاً في ديار “الأنظومات” الشمولية.. هذه التي تسكن كل بنيان ما قبل ابتكار “العمومية”.