ثمن إستقالة قرداحي
“ليبانون ديبايت”- عبدالله قمح
منذ مدّة طويلة والسعودية تختار الجلوس على مقاعد الجمهور لمشاهدة “المدّ” اللبناني “يبتلع اليابسة” من دون أن تحرّك ساكناً، على الرغم من أن دولاً عديدة ناشدتها، ونكاد نظنّ، لا بل اننا متأكدون من أن أطرافاً محلية توسّلت إليها، وتوسّلهم يأتي عادةً من موقع تعزيز الحضور، من دون أن تبالي بهم وقد “قصّرت” حضور سفيرها عند حدود اللقاءات العشائرية وفناجين القهوة. هذا كله في العلن، فما الذي جرى حتى انتفضت السعودية ودعت لوقفة رجل واحد تجاه لبنان؟
على الأكيد إن الموضوع ذات صلة بملفات إقليمية، تسعى الرياض إلى فتحها لذلك كان لا بدّ من “التنبيش” في بهو النقاشات الجارية في المفاوضات الجانبية مع الإيرانيين، وعن الثمن الذي طلبته السعودية لقاء “إبعاد رجالات طهران” عن العواصم الأربعة، ولعلّها وجدت في بيروت محاولة تصريف نفوذ بالمعنى السياسي ربطاً بما تحظى به المملكة على مستوى القيادات، فقرّرت تجميع الأوراق هنا لتقديمها هناك، من زاوية مأرب.
على أي حال، بلغت السعودية السقف الأعلى من حملتها على لبنان إقتصادياً سياسياً وشعبياً. واستناداً إلى ما تقدّم فإن ما جرى يكاد يكون أقصى ما يمكن بلوغه، ومنذ الآن ولحينه لن تعثر المملكة على أوراقٍ بنفس القوة، تسفر عن تصريف “فائض” في هذا البلد، إلاّ إذا ما كانت تخفي أوراقاً أمنية مثلاً، أو شعبية على شكل استقالات من الحكومة تجرّ إلى حالة غضب عارمة أو تُدخل ورقة “الملاحة” الجوية كخرطوشة أخيرة.
في مستهل الأزمة الراهنة، اتّضح أن الهجمة شرسة، فكان لا بدّ من “الصمود والثبات” وقد بنى أحد المراجع على ما رأى بأنه كناية عن “عاصفة كانونية هوجاء” وفي حالات مشابهة لا بد من الثبات والتثبيت. هذه القواعد تحتاج إلى “ركاب” عملياً، فأخذ أصحاب الشأن يبحثون عمن يمتلك تلك “الخاصية” إن وجدت. في الخلاصة تلك العاصفة ستدوم لأيام قبل أن تتكسّر وتتلاشى وتعود الأمور إلى المعالجات العقلانية بعيداً عن الصراخ.
عند هذه القاعدة، تتولّد قناعة بأنه بات لا بدّ من تسوية لتصفير المشكلة أو أقلّه العودة إلى القواعد السابقة في التعامل، وفي النتيجة مهما تعاظمت الأزمات فإن حلّها يأتي عبر المخارج والتسويات مهما طال الزمن. من هنا أخذ من يعنيهم الأمر في البحث عن الفرصة المثالية أو الثمن المرجو لابرام هذه التسوية، ومن سيدفع الثمن الأكبر وعلى ماذا سيحصل لبنان لقاء ذلك؟
أحد المعنيين يجزم بأن الحلّ لا بدّ أن يأتي عبر استقالات من الحكومة تأخذ مقام “إعادة التموضع” بمعنى الأخذ في الإعتبار “المتطلبات السعودية” لادخالها عنصراً شريكاً في المسار. هذا المعنى ينقلنا إلى “تعديلات” وزارية، فهل أن اجواءها سانحة؟ في مقابل ذلك، ثمة تهيّب للحظة! فالإستقالات لا بدّ “إن حصلت” أن تكون مضبوطة، بمعنى التوازن و أن لا تجرّ استقالات تودي بالحكومة إلى المجهول. بهذا المعنى كأن الاشارة تذهب نحو وزير الإعلام جورج قرداحي، المسؤول بالنسبة إلى الخليج عن الأزمة “ظاهرياً”، ولو أن هذا الأخير قد أسقط فرضية الاستقالة من احتمالاته، مع ذلك تبقى قائمة. ففي النتيجة لن يضحّي قرداحي بنفسه، ومن جهة أخرى لن يمثّل عائقاً إن استقرّ الحلّ عليه، وللتحديد أكثر فاستقالته لن تكون مجانية! بهذا المعنى نعود إلى الثمن: ما هو الثمن الذي سيتقاضاه المعنيون بقرداحي لقاء استقالته وإنهاء الأزمة؟
في مسألة الطيونة ومسارها الذي عرقل الحكومة وأوصلها إلى الحضيض، كان البحث عن نوعية التسوية أو التخريجة التي تكفل إنهاء الملف بالمعنى السياسي والعودة إلى الحكومة. صحيح أن “الثنائي الشيعي” بصفته معنياً رئيسياً ب”فصل المسارات” بين ملف التحقيق بانفجار المرفأ وبين ملف الطيونة، لكنه في نفس الوقت كان يبحث عن حلّ لقضية المحقق العدلي في تفجير المرفأ. وفيما لو أُطيح بالقاضي طارق البيطار، لكان مجلس الوزراء قد عاد والتأم من جديد، وتُركت مسألة الطيونة إلى القضاء كما نصّت دعوة “الثنائي” في الأساس. وعلى المنوال نفسه، سيقبل الثنائي الشيعي + حلفاؤه عاجلاً أم آجلاً بحلّ ينهي قضية النزاع مع الخليج وتعطيل الحكومة، وثمة من يذهب نحو الإعتقاد أنه و كلما طالت الازمة وبلغت مداها، “ثبت” الثنائي وحلفاؤه خلف مطالبهم وكلما أضحى منطق ظفرهم في التسوية حقيقة.
بهذا المعنى، السعودية وضعت شرطاً وهو إسقاط حكومة ميقاتي أو استقالة قرداحي. هي تعلم أن الوصول إلى الأولى صعب إن لم يكن مبالغ فيه، وربما يأتي ذلك الطلب من مقام رفع الشروط، بينما الحصول على الثانية قد يكون متاحاً وفيه “ضربة” لصورة الحزب + حلفائه أو هكذا تعتقد. لذلك يعمل الحزب على ترشيد دفع الثمن والحصول مقابله على مكاسب، تجعل منه متوازناً على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
وعليه، من الخطأ أن يكون التنازل مجانياً أو يقدم مجاناً. وفيما لو باتت استقالة قرداحي أمراً واقعاً، على الثنائي البحث عن مقايضة الإستقالة، ليس بالعودة طبعاً إلى القواعد التي كان معمولٌ بها قبل “عاصفة التصريح” أي بقاء السعودية ضمن الجمهور وتعاطيها السلبي، وإنما أخذ منها تنازلاً كوقف تدخلها في الشؤون اللبنانية وتعديل موقفها باتجاه دعم هذا البلد وحكومته (وهو ما يبتغيه ميقاتي)، ووقف سياسة التحريض الداخلية و “تنمية وتنشئة” الأبواق و الإنتظار عند “الكوع”، أو تجميد حضورها والإستغناء عن سياسة بثّ الدعاية ضد “حزب الله” و الإقلاع عن اتهاماتها بحقه، وطبعاً وقف الإجراءات الديبلوماسية وإنهاء قرار القطيعة الإقتصادية مع لبنان، بالحدّ الأدنى السماح لإرساليات الخضار بالعودة إلى نشاطها السابق.
أقلُ من هذا الثمن، تعدّ استقالة قرداحي -إن حصلت- خسارة، ولا نعتقد أن قرداحي وحلفاءه، مستعدون لأن يخسروا في قضية مصيرية، ولو أن الوضع العام يظهرهم محرجين لكن واقع الأمور يوحي بأن لديهم أوراقاً للعب. فبطبيعة الحال، حفلة الجنون السعودية الحالية التي دفعت المملكة إلى اتخاذ القرار العقابي الأقصى بحقّ لبنان، ما كانت لتحدث لو أنها أدرك أن “قوتها” في الداخل لم تعد تنفع في تعديل موقف وزير أو محاسبته، فكيف تنفع في “فكّ ارتباط” الدولة مع “حزب الله” أو إبعاد حلفاء الحزب عنه أو فكّ ارتباط هذا الأخير بطهران؟