تصعيد خليجي “غير مسبوق” ضد لبنان… هل قرداحي هو السبب حقًا؟!
بوتيرة سريعة وغير مسبوقة، تزداد حدّة الأزمة اللبنانية الخليجية التي نشبت على خلفيّة تصريحات متلفزة مثيرة للجدل قيل إنّ وزير الإعلام جورج قرداحي أدلى بها قبل تسلّمه منصبه الوزاريّ، فإذا بها تتسبّب بأزمة دبلوماسيّة خطيرة تجاوزت “منطق” استدعاء السفراء بأشواط، وتكاد تلامس مرحلة قطع العلاقات بالمُطلَق، وبصوة نهائيّة.
هكذا، أخذت الأمور خلال عطلة نهاية الأسبوع منحى دراماتيكيًا مغايرًا للانطباع الذي ساد لبعض الوقت عن “احتواء” أزمة تصريحات وزير الإعلام، إذ بدا أنّ “تنصّل” الحكومة بشخص رئيسها من “الرأي الشخصي” لوزير الإعلام لم يكن كافيًا، ولا تأكيدها على الرغبة “الصادقة” بأفضل العلاقات مع دول الخليج، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية.
ثمّة من حمّل المسؤولية لوزير الإعلام نفسه، بتمسّكه بموقعه ورفضه الاستقالة، بل رفعه السقف، عبر الحديث عن “ابتزاز لن يخضع له”، وثمّة من يرمي الكرة في ملعب القوى الداعمة له، وأولها “حزب الله”، الذي وبدل أن يواكب مسار “التهدئة” الرسمي، زاد “التصعيد” ببيانٍ دافع فيه عن “شجاعة” قرادحي، رافضًا أيّ مسعى لإقالته.
لكن، في كلّ الأحوال، فإنّ الأكيد أنّ ما شهدته العلاقات اللبنانية الخليجية هذا الأسبوع يكاد يكون “تاريخيًا”، وغير مسبوق، ولو أنّها عرفت الكثير من “الخضّات والهزّات”، خصوصًا في السنوات القليلة الماضية، لكنّها لم تصل يومًا إلى هذا الدرك، فما هي خلفيّاتها الحقيقية؟ وهل يصدّق أحد أنّ تصريحات جورج قرداحي هي فعلاً السبب؟
الأكيد أنّ تصريحات وزير الإعلام ليست، بحدّ ذاتها، السبب الحقيقيّ للأزمة المستجدّة على خطّ العلاقات بين لبنان ودول الخليج، وهو ما يؤكد عليه جميع الأطراف، سواء منهم من يؤيّد السعودية أو يُحسَب عليها، أو من يجد نفسه تلقائيًا في موقع “الخصومة” معها، وبالتحديد الفريق المؤيد لـ”حزب الله”، والمحسوب على محور “الممانعة”.
فصحيح أنّ مؤيّدي الرياض وحلفاءها الذين فوجئ الكثير منهم بـ”الحملة” على قرداحي، يعتبرون أنّ تصريحاته لم تكن مناسبة لا في الزمان ولا في المكان، وتشكّل “إضرارًا” بالمصلحة اللبنانية العُليا، إلا أنّهم يقرّون بأنّ الأزمة مع الخليج تتجاوز هذه التصريحات، وأنّها مبنيّة على تراكمات، كلّ ذنب قرداحي أنّ تصريحاته جاءت لتشكّل رأس جبل الجليد على خطّها، إذا جاز التعبير.
ولعلّ المسؤولين السعوديين أنفسهم يؤكدون هذه المقاربة، فوزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان تحدّث بهذه الروحيّة، ومثله أوحت البيانات الرسمية التي صدرت عن المملكة، والتي استعادت العديد من القضايا “الخلافيّة” مع لبنان، وعلى رأسها الشكوى من هيمنة “حزب الله” وسيطرته على الدولة، إضافة إلى حرب “المخدرات” التي سبق للسعوديين أن اتهموا لبنان بالسماح بـ”تصديرها” إلى قلب المملكة.
ويتّفق مؤيدو “حزب الله” مع خصومهم على أنّ الإشكالية لا تتعلّق بوزير الإعلام، بل تتجاوزه بأشواط، لكنّهم يختلفون بطبيعة الحال في “التشخيص”، فتصريحات الرجل ليست “رأس جبل الجليد”، كما يروّج حلفاء السعودية في لبنان، بل مجرّد “ذريعة” يتلطّى خلفها البعض ليبرّر “التصعيد” إزاء لبنان، خصوصًا في مواجهة الضغوط الدولية للانفتاح عليه بعد تشكيل حكومة جديدة تعهّدت بنسج أفضل العلاقات مع محيط لبنان، ولا سيّما العربي.
يشير هؤلاء إلى أنّ مشكلة السعودية في لبنان هي مع “رجالها” قبل أن تكون مع “خصومها”، ويستدلّون على ذلك بعلاقة الرياض بمن كان يوصَف بأنّه “طفلها المدلّل”، رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي “عجز” عن تأليف الحكومة بسبب رفض السعودية “مباركة” خطواته، وإشهارها “الفيتو” في وجهه، علمًا أنّ العلاقات بين الجانبين تدهورت منذ الاستقالة الشهيرة التي أعلنها الرجل من الرياض، وتراجع عنها من بيروت.
من هنا، يخلص مؤيّدو “حزب الله” إلى أنّ تصريحات قرداحي لم تكن أكثر من “حُجّة” وجدتها المملكة لشنّ “الحرب” على لبنان، علمًا أنّ هذا الأمر، وفق هؤلاء، يُدينها ولا يمنحها “صكّ البراءة” لتفعل ما تشاء في لبنان، إذ إنّها بدت كأنّها “تفتعل” أزمة طويلة عريضة، لأنّ وزيرًا ما عبّر عن رأي، لم يبقَ أحد في لبنان إلا وقال إنّه رأيه “الشخصيّ” الذي لا يلزم أحدًا، وهو ما يفترض أن يكون حقًا بديهيًا مشروعًا لأيّ فرد في أيّ بلد.
يذهب المحسوبون على الحزب أبعد من ذلك، ليسألوا عمّا إذا كان المدافعون عن حقّ السعودية بـ”معاقبة” لبنان على رأي وزير لا يعجبها، سيفعلون الأمر نفسه لو أنّ إيران مثلاً استنكرت “اتهامًا” يطالها من وزير آخر، فيما يردّ خصومه بأنّ المقارنة لا تجوز ولا تستقيم، باعتبار أنّ ما تقدّمه دول الخليج للبنان وأبنائه، لا تستطيع إيران أن تقدّمه، ولا هي تدّعي أنّها ترغب في تقديمه أساسًا، وهنا بيت القصيد.
لكن، بين هذا الرأي وذاك، يبقى الأكيد أنّ الأزمة اللبنانية الخليجية وصلت إلى ذروتها، من دون أن يغيّر شيئًا في المعادلة ما إذا كان قرداحي “السبب” في ذلك، بمعنى أنّه إذا كان قرداحي “ذريعة” أم “نتيجة”، فإنّ الأمر سيّان، لأنّ “المحظور” قد وقع، والمطلوب الآن معالجة تداعياته، والعمل على تخفيف أضراره بالحدّ الأدنى، بما يسمح بالمضيّ إلى الأمام، واستكمال مسار “الإنقاذ” العصيّ على التنفيذ.
ثمّة من يعتبر ما حصل في الأيام الأخيرة دليلاً آخر على أنّ “الامتعاض” الخليجي من لبنان لم ينتهِ فصولاً، وعلى أنّ قرار “تطنيش” لبنان خليجيًا لا يزال ساري المفعول، بمُعزَلٍ عن الضغوط الدولية التي تصاعدت بعد تأليف الحكومة، لكن ثمّة من يرى أنّ “الأزمة” هي في التعاطي اللبناني مع الموضوع، والذي لا يرقى حتى الآن إلى المستوى المطلوب، وفق كل القراءات والمتابعات.
بالتأكيد، فإنّ “رفع السقف” لا ينفع في هذه الحالة، ولا “الاستقواء”، ولا الإيحاء بأنّ تخلّي الخليج عن لبنان لا يقدم ولا يؤخّر، ولا حتّى “التنظير” بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الأكيد أيضًا أنّ قبول “الإذلال” ليس هو الآخر حلاً، ولا “استجداء” الرحمة، وطلب “المغفرة”، بالشكل الذي يحصل. هل من خيار في المنطقة الوسط، تفرضه الواقعية، وينسجم مع المصلحة العليا للبنان، الذي يبقى جزءًا من النسيج العربي شاء من شاء وأبى من أبى؟!.