الوجود الإيراني في الإقليم العربي… وضروراته
د. جمال زهران*-البناء
المتأمّل لحركة الإقليم… يجد أنّ الإقليم العربي لديه القابلية على التغلغل الأجنبي في أحشائه، وهو محلّ مطامع استعمارية على مدار الحقب التاريخية المختلفة. ولذلك أطلق الاستعماريون على الإقليم منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، والذي تأكد في دوريات علمية تحمل هذا الاسم، وذلك لإفراغ صفتي العروبة والإسلام عن هذه البقعة التي تعتبر أغلى المربعات الجغرافية في العالم. وفي الوقت الذي أعلن عن تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، بمبادرة غير عربية، لم تمضِ عدة سنوات حتى تمّ الإعلان عن إقامة دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) على أرض فلسطين عام 1948، لتتأكد نوايا الاستعمار عموماً، والإنكليزي بصفة خاصة، في استبعاد الفكرة العروبية من أن تجد سبيلها لترجمة عربية حقيقية، وتظلّ جامعة الدول العربية شكلاً بلا مضمون، وهو الأمر الحادث للآن بكلّ أسف.
فقد أعلن عن تأسيس الكيان الصهيوني، بشرعية دولية زائفة بقرار صادر عن الأمم المتحدة التي لم تكن إلا وليداً لم يمضِ عليه ثلاث سنوات فقط. وقد ولدت مع هذا الكيان غير الشرعي، القضية الفلسطينية التي لا تزال حتى اليوم حائرة بين مشاريع مختلفة أهمّها مشروع المقاومة حتى التحرير الكامل لكلّ التراب الفلسطيني، والعودة بفلسطين كاملة قبل عام 1948.
تلك هي مقدّمة لفهم الاهتمام الإيراني بالإقليم العربي في عهد ما بعد الثورة الإيرانية التي اندلعت في شباط/ فبراير 1979، وأسقطت نظام الشاه، الموالي لأميركا والغرب الاستعماري، والذي كانوا يطلقون عليه لقب الشرطي الحارس للمصالح الاستعمارية في الإقليم عامة والخليج العربي خاصة! فالقضية الفلسطينية هي القضية المركزية الكاشفة لموقف القوى الإقليمية والدولية، بالدعم للفلسطينيين أو للصهاينة.
فعلى الجانب الإيراني، كانت ثورة 1979 في إيران، نقطة تاريخية فاصلة بين نظام الشاه الذي كان يؤيد تأييداً كاملاً بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن الأميركيين الداعمين للكيان الصهيوني، إلى حدّ أنه شارك في دعم “إسرائيل” خلال حربي 1967، 1973، بالسلاح والبترول والمال، وبين نظام الثورة الجديد الذي جعل من القضية الفلسطينية وتحرير القدس، محوراً رئيسياً لشرعيته الإقليمية، بما يتفق مع قناعات قادة الثورة وفي مقدمتهم الإمام الخميني، ورؤاهم الفكرية الواضحة. ولذلك كانت أول قرارات الثورة غلق السفارة الصهيونية وطرد العاملين فيها وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإلغاء الاعتراف بها. في الوقت نفسه تخصيص هذه السفارة لتكون مقراً للسفارة الفلسطينية التي تعدّ الأولى المسماة بهذا الاسم.
ومن ثم فإنّ الثورة الإيرانية، وموقفها الداعم للقضية الفلسطينية، قد أعطت هذه القضية الأولوية المطلقة للسياسة الخارجية لعهد الثورة الجديد في إيران بعد إزالة نظام حكم الشاه… وعائلته للأبد، ولا تزال هذه الأولوية قائمة حتى الآن.
وتبرز أهمية هذه الثورة، ودعمها المطلق للقضية الفلسطينية، بعد شهور من عقد اتفاقيات كامب ديفيد، والتي سبقتها زيارة السادات المشؤومة إلى الكيان الصهيوني في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977! حيث ترتب على ذلك انسحاب مصر من ممارسة دورها القيادي في دعم القضية الفلسطينية، والتفريط العمدي في الانتصار التاريخي في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لصالح التقارب بل والتوحد مع المشروع الأميركي الصهيوني، بما يخدم أهداف الغرب، ويحطم القضية الفلسطينية. وكأنّ الدور القيادي الذي فقدته مصر في الإقليم العربي، استبدل بعد شهور بثورة 1979 الإيرانية، لتحلّ إيران الجمهورية القادمة، محلّ “مصر” المنسحبة من القضية الفلسطينية بحجة انسحاب “إسرائيل” من سيناء، مقابل تضييع عمدي للدور القيادي لمصر.
فلو تخيّلنا أنّ الثورة الإيرانية لم تقم أصلاً، وظلّ التحالف المصري ـ الإيراني في ظلّ الشاه والسادات، لفقد الإقليم العربي والشرق أوسطي، ذاتيته للأبد، وربما تلاشت القضية الفلسطينية لعقود طويلة تالية!
وعلى العكس لو تخيّلنا أنّ الثورة الإيرانية قامت، وطردت السفارة الصهيونية من طهران وحلت محلها السفارة الفلسطينية، في الوقت نفسه استمرّ الدور القيادي لمصر على نفس رؤية ونهج وسياسات عبد الناصر، لأمكن تصوّر الانتصار الحاسم للقضية الفلسطينية، وربما أتصوّر إزالة الكيان الصهًيوني من الوجود. ولكنها للأسف، فإنّ للمؤامرة والخيانة شأناً آخر في ترتيب الإقليم على المستويين العربي والشرق أوسطي.
فمن يريد أن يفهم مفتاح الحضور الإيراني في الإقليم العربي، عليه أن يفهم لماذا يتمّ هذا الحضور؟ ودواعي ذلك؟ وذلك ابتداءً من الحرب المفتعلة بين إيران والعراق لمدة ثمانية أعوام (1988-1980)، وكان الهدف الغربي تحطيم القوتين معاً، لتظلّ “إسرائيل” هي المهيمنة بعد أن تم تأميم الإرادة المصرية بعقد اتفاقيتي كامب ديفيد (1978)، والاتفاقية المصرية ـ الإسرائيلية في مارس/ آذار 1979 (بعد أقل من شهرين من قيام الثورة الإيرانية). وكذلك مروراً بتأسيس حزب الله (عام 1985) ليكون الشوكة في حلق الكيان الصهيوني، والذي حقق إنجازاً على الأرض بتحرير الجنوب اللبناني في عام 2000، وإلى غير رجعة، وتتأكد من جديد لغة القوة في مواجهة الكيان الصهيوني، تأسيساً على الفكر الناصري (ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة). وقد كان ذلك سبباً لكراهية الغرب وأميركا والكيان الصهيوني لإيران، ومحاصرتها بقرارات غير شرعية، وفرض العقوبات عليها، الأمر الذي أدى بالجمهورية الإيرانية للسعي لنشر وجودها في الإقليم العربي، على خلفية الأزمات المتتالية، مثل: الاحتلال الأميركي للعراق، ومحاولة تفجير سورية وإسقاط نظامها وتفكيكها مع تفكيك العراق، وكذلك اليمن، وغير ذلك. وسيظلّ الصراع قائماً، إلى أن يرضخ الغرب بالقبول للمشروع الإيراني وبتفاهمات تقضي بقبول المشروع النووي لإيران، مع تفاهمات أخرى. ولكنها في النهاية يمكن القول إنّ القضية الفلسطينية هي الركيزة في فهم ما جرى. فلن تتوارى هذه القضية أو تموت طالما هناك فكرة المقاومة مستمرة، وللحوار بقية…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ