الانتخابات تزيد الانقسام السياسي.. هل سيكون بمقدور حكومة ميقاتي القيام بإصلاحات؟ الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد جوهرية.. كيف ستكون ردّة فعل السلطات؟ توازياً مع رفع الدعم.. ما هي الوسائل المطروحة أمام الحكومة لحل الأزمة المعيشية؟
جاسم عجاقة-الديار
من أزمة أغذية إلى أزمة محروقات مُرورًا بأزمة أدوية، يُعاني اللبناني يوميًا من الذل ما لا يُحمل! لكن متلازمة ستوكهولم تمنعه من أية ردّة فعل كانت لأطاحت بالنظام في أكبر دول العالم، إلا أن الاصطفاف الطائفي حمى أهل الفساد.
بقي الشعب اللبناني ثلاثة عشر شهرًا من دون حكومة، وواجه الإحتكار والتهريب والمضاربة في سوق العملة ودفع ثمن كل هذا من حسابه من خلال ضرب الليرة اللبنانية بمشهد غريب لخرق للسيادة الوطنية مع ما تُمثله العملة الوطنية من هوية المواطن وثروته.
مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، يتوقّع اللبنانيون أن تقوم هذه الحكومة بإصلاحات وإجراءات تُخرج لبنان والشعب اللبناني من أزمة وصفها البنك الدولي على أنها من أقسى ثلاث أزمات في العالم خلال المئة وخمسين عام الماضية. هذه الحكومة التي أتت بتقاطع مصالح غربي – شرقي – محلّي (أو أميركي – فرنسي – إيراني – محلّي) تمتلك من الدعم ما يكفي لقيامها بإصلاحات عجزت عن القيام بها كل الحكومات السابقة، ويفرضها – أي الإصلاحات – إطار إقتصادي ومالي ونقدي أسود. ويبقى السؤال الأساسي الذي يطرحه كل مواطن: هل يُمكن لحكومة الرئيس ميقاتي القيام بالإصلاحات المطلوبة؟ سؤال مشروع والجواب عليه يتطلّب بحث عدد من النقاط.
نظريًا تحمل حكومة ميقاتي دعماً أميركياً وفرنسياً وحتى أوروبي عامة، بالإضافة إلى دعم الجمهورية الإسلامية في إيران والقوى والأحزاب الأساسية في لبنان (إذا ما إحتسبنا أصوات الأحزاب التي أعطت الثقة للحكومة). وبالتالي إنها مسألة وقت قبل أن تبدأ الحكومة إجتماعاتها هذا الأسبوع لتعيين اللجنة المولجة التفاوض مع صندوق النقد الدولي مع إحتفاظ الحكومة بصلاحياتها في القرار النهائي عن كل إتفاق تصل إليه اللجنة بالإضافة إلى موافقة المجلس النيابي.
لن نستبق الوقت للتكهن بما ستقوم به هذه الحكومة ولكن كمراقبين، يمكن طرح عدد من النقاط (على سبيل الذكر وليس الحصر) التي قد تكون محطّ تساؤلات في المرحلة المقبلة:
أولاً – من المعروف أن الإنتخابات النيابية هي على بعد أشهر من الآن. هذه الإنتخابات بدأت ترفع من منسوب الخطاب السياسي بين خطاب طائفي ومذهبي وسياسي، وهو ما قد يُشكّل ظاهرياً مادّة خلافية في المرحلة المقبلة، ولكنها قد تُعطّل عمل الحكومة الإصلاحي وذلك على العديد من الملفات إلا إذا تدارك المعنيون حراجة الموقف.
ثانيًا – الأفق السياسي الدخلي والخارجي غامض حتى الساعة وهو ما يطرح أسئلة عن نظرة الحكومة المهنية المستقبلية وقدرتها على إيجاد حلول سريعة لمُعالجة الأزمة المعيشية التي قد تدخل في مستوى أصعب في الأسابيع القادمة.
ثالثًا – مشكلة العلاقة اللبنانية – السعودية والتي قد تمثل بحق عائقا كبيراً أمام قدرة لبنان على إيجاد التمويل اللازم للإصلاحات التي تنوي الحكومة القيام بها، سيما وأنها مفتاح الخليج العربي.
عمليًا، من دون الخوض في الفلسفة الإقتصادية للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يُمكن إختصار مطالب صندوق النقد الدولي من الحكومة اللبنانية بمطلب واحد، ألا وهو «تغيير أسلوب الاستنساب واتباع الحوكمة الرشيدة» أي بعبارة أوضح تغيير السلوك القائم عند المسؤولين في إدارة أمور البلاد المالية والنقدية والإقتصادية. هذا بالطبع، يعني تغييراً جذرياً في طريقة تسيير أمور الدولة ومعالجة المشاكل وهو ما يطلق عليه مصطلح بالإصلاحات.
لا يُخفى على أحد أن بعض مؤسسات الدولة، أصبحت محسوبة بشكل كامل على القوى السياسية، وبالتالي فإن أي عملية إصلاحية قد تصطدم بمصالح هذه القوى، وهو ما قد يمنع أي عملية إصلاحية أو إجراء عملية إصلاحية مجتزأة. من هذا المنطلق هناك إمتحان كبير أمام حكومة ميقاتي وإمتحان اكبر آخر أمام القوى السياسية التي دعمت الحكومة في ملف الإصلاحات.
الإصلاحات المطروحة تشمل عدة محاور أساسية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر
المحور الأول : يطال المالية العامة ويشمل ملفات عديدة منها الدعم بكل أنواعه، الجباية، الضرائب، الدين العام، الإنفاق الجاري، الحساب الجاري، السيادة المالية للدولة…
المحور الثاني : يطال القطاع العام ويشمل المؤسسات العامة وجدواها الإقتصادية والخدماتية العامة بالإضافة إلى أعداد موظفي القطاع العام، وإدارة القطاع العام والفساد المستشري فيه.
المحور الثالث : وهو محور نقدي – مصرفي، ويشمل «الكابيتال كونترول» وسعر صرف الليرة وآلية تحديد الفوائد والقطاع المصرفي وإلتزاماته، كما والسياسة النقدية في المرحلة المقبلة.
المحور الرابع: وهو محور إقتصادي بحت، ويشمل هيكلية الإقتصاد اللبناني بهدف تدعيم الميزان الأولي الذي يُعتبر عنصراً أساسياً في إنتظام المالية العامة. ويتعلّق هذا المحور برؤية الحكومة للإقتصاد اللبناني وما تُريد أن يكون عليه وهو يشمل بصفة أساسية تأمين وظائف للمواطنين وتعظيم حجم الإقتصاد وإستطرادًا إدخال العملة الصعبة من خلال التصدير والمشاريع الاستثمارية في البنى التحتية والمرافق العامة من خلال بعض الصيغ المعتمدة في مثل الأحوال اللبنانية الحالية كالـ BOT.
المحور الخامس : وهو محور مُستجدّ مع تردّي الأوضاع المعيشية وزيادة الفقر بشكل كبير منذ بدء الأزمة في الربع الأخير من العام 2019. ويهدف هذا المحور الى السيطرة على الفقر من خلال إعتماد سياسات إنمائية تهدف الى تخفيف وتيرة زيادة الفقر في مرحلة أولى، على أن يتم خفضه في المراحل التالية. وهنا يمكن اللجوء الى البنك الدولي.
بالطبع هذه الإصلاحات ستكون موضوع خطة حكومية، من المفروض أن تذهب فيها الحكومة الى صندوق النقد الدولي للتفاوض معه عليها، وعندها سيقوم صندوق النقد بدوره بدراسة مدى صلابة هذه الخطة وتجانس مكوناتها، إضافة الى مدى إحترام هذه الإصلاحات لمبادئه الثلاث: فتح لبنان أمام التجارة الدولية ؛إنسحاب الدولة من الفضاء الإقتصادي؛ وإستبدال التنظيم العام بتنظيم السوق من خلال إعتماد آليات السوق. وكل ذلك تحت مظلة إعتماد الحوكمة الرشيدة في القطاعين العام والخاص.
على صعيد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يتم تشكيل لجنة حكومية (مدعومة بإختصاصيين) مولجة إدارة ملف التفاوض بإشراف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، هذا الأمر يفترض بدء المفاوضات خلال أسبوع أو أسبوعين على أبعد تقدير. وعلى الرغم من ذلك، فإن المُشكلة التي تواجه حكومة الرئيس ميقاتي هو الملف المعيشي الضاغط الذي لم يعد يحتمل أي مماطلة.
الإجتماع الأول لحكومة ميقاتي بعد نيلها الثقة سيكون بعد غد (نهار الأربعاء)، فهل يتم إتخاذ إجراءات عملية للتخفيف من وطأة الأزمة المعيشية في هذه الجلسة؟ من الواجب معرفة أن مثل هذه الإجراءات هي أكثر من ضرورية ولكن تبقى العبرة في رؤية أي قرارات يجب إتخاذها؟
قبل الرد على هذا السؤال، يجب التأكيد على أن هناك حاجة دائمة للعملة الصعبة بهدف إستيراد السلع والبضائع والخدمات. وهنا المُشكلة الأساسية بالنسبة للحكومة: من أين ستأتي بالدولارات لتأمين الإستيراد؟ بالطبع مصرف لبنان لم يعد يملك الدولارات القابلة للإستخدام، وبالتالي هناك في خزينة الدولة 1135 مليون دولار أميركي حصة لبنان من حقوق السحب الخاصة، وهذه الأموال لا يُمكن إستخدامها في عملية الإستيراد.
إذا ما هو المطروح أمام حكومة ميقاتي؟ الجواب هو بأربع خطوات أساسية:
أولاً: الطلب الى المصدرين إعادة أموال التصدير الى المصارف اللبنانية مع حفظ حرية تصرّفهم بهذه الأموال لإستيراد المواد الأولية لأشغالهم.
ثانياً: وقف الإحتكار والتهريب، وهي أكبر مصادر نفاذ للدولار الأميركي في السوق اللبناني.
ثالثاً: وقف التطبيقات الإلكترونية التي تأخذ الشعب اللبناني رهينة مخططات الانهيار الاضطراري.
رابعاً: رفع مشروع قانون التنافسية (Anti-trust) للمجلس النيابي بهدف تحرير الأسواق وبالتالي تحرير الأسعاروتركها نتيجة العرض والطلب.
هذه الخطوات الأربع كافية لتخفيف وطأة الأزمة على المواطنين بإنتظار بدء ترجمة نتائج التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
يبقى أمام الحكومة شق أساسي مُرتبط بعلاقة لبنان مع محيطه العربي وبالتحديد الخليجي الذي يُعتبر الممول الأساسي في مؤتمر سيدر. وبالتالي، فإن تمويل الإصلاحات (ما لا يقل عن 3.5 مليار دولار أميركي) مرهون بهذه العلاقة نظرًا إلى أن العديد من الدول المانحة الأخرى (أوروبية بالدرجة الأولى) تواجه مشاكل مالية مع إستفحال أزمة كورونا وما خلفته من عجز في موازنات هذه الدول، وبالتالي فإن وعود هذه الدول قد لا يتم ترجمتها فعليًا. يضاف إلى ذلك عدم قدر البنوك اللبنانية على المساهمة المالية
الجدير ذكره، أن أي مساعدة خارجية لن تُبصر النور قبل التوافق مع صندوق النقد الدولي على برنامج واضح يكون تنفيذه تحت رقابة الصندوق الذي سينشر على موقعه الإلكتروني والذي سيكون محط ملاحقة من قبل الدول المانحة والدول التي ترغب بالمساعدة. وبما أن تنفيذ الإصلاحات يحصل على مراحل، لذا ستكون حكومة ميقاتي والحكومة التي ستليها في إمتحان صدقيتها تجاه المجتمع الدولي، ولكن قبل كل شيء تجاه الداخل اللبناني الذي أصبح بحاجة ليثق بحكوماته.
هذه الصدقية تجد طريقها في الحوكمة الرشيدة التي يفترض أن تتبعها الحكومة والتي تفرض إعلان ما ستفعله وفعل ما وعدت به، وكل ذلك بشفافية عبر نشر المعلومات على موقع الحكومة اللبنانية الإلكترونية، ستظهر الصدقية أيضًا مع بدء الحكومة محاربة الفساد بشكلٍ فعّال عبر سوق الفاسدين أمام القضاء بغض النظر عن الإنتماء السياسي للفاسد أو الحماية التي يتمتّع بها.
آمال كثيرة مُعلّقة على حكومة ميقاتي والتي تُشكّل بصيص أمل في نفق مُظّلم علّ بصيص الأمل هذا يتحوّل الى نور ساطع تشعّ فيه العدالة الإجتماعية، ويكون فيه المواطن اللبناني مواطنا يتمتع بكامل حقوقه التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان، وكفلها الدستور اللبناني.