… إنّها حكومة الانتخابات لا الإصلاحات
… إنّها حكومة الانتخابات لا الإصلاحات
|
إيلي القصيفي -أساس ميديا- الأحد 19 أيلول 2021 |
لكنّ الأمر لا يتّصل بميقاتي حصراً، إذ إنّ السخط الشعبي ضدّ المنظومة الحاكمة ما عاد يعبّر عن موقف سياسي وحسب، بل وعن غضب إزاء الخسارات الكبرى التي تكبّدتها غالبية اللبنانيين خلال السنتين الماضيتين، ولذلك فهو سخط عميق ومتجذّر.
لقد وُلدت الحكومة الجديدة بعد 13 شهراً من تعطيل العهد والوزير جبران باسيل وحزب الله لولادتها. 13 شهراً كانت كافية لوصول 75 في المئة من اللبنانيين إلى تحت خطّ الفقر، ولوقوفهم ساعات وساعات أمام محطات البنزين والأفران، إضافة إلى فقدان الأدوية الأساسيّة والغلاء الفاحش. وعلى الرغم من ذلك فإنّ 13 شهراً من التعطيل لم تكن بالنسبة إلى رئيس الجمهورية مضيعة للوقت، ولذلك نصح الوزراء الجُدد بفائض أُبُوّته لهم وللّبنانيّين الجياع بعدم إضاعة الوقت، إذ “لم يعد لدينا ترف البطء والمماطلة”. وهي نصيحة لم تفُت ميقاتي الذي قال لوزرائه أيضاً إنّ “الوقت ثمين، ولا مجال لإضاعته”.
لكن إذا كان الرئيسان قد تماثلا في الحكمة في الجلسة الحكومية الأولى، فإنّ فهم الممارسة السياسية في لبنان بات يستوجب فهم فلسفة الوقت عند رئيس الجمهورية وصهره. فأن يكون 40% من عهد عون فراغاً بفراغ، ثمّ فجأة يضخّ الرئيس الاستعجال في شرايين الوزراء الجدد، فهذا أمرٌ أعصى على الفهم مِن تصريحات بعض الوزراء الجُدد الذين يذكّرون بشخصيّات مسرحيّة “شاهد ما شافش حاجة”، ما عدا وزير الإعلام الذي لا يخفى عليه شيء.
والحال هذه، هل كان يُتوقّع أن يرشّ اللبنانيون على رئيس الحكومة ووزرائه الورود والأرزّ لإعلان ولادة الحكومة؟
يُفهَم من حرص رئيس الجمهورية على عدم إضاعة الحكومة الجديدة الوقت أنّه يتوقّع أن ينسى اللبنانيون تعطيل الأشهر الـ13 الماضية وأضراره الكارثية مع إتمام تشكيل الحكومة الجديدة! يطمح الرئيس أن يسامح الشعب العهد عن كلّ المآسي التي عاشها طوال هذه الأشهر الأسوأ في تاريخ لبنان. أوليس “المسامح كريماً” بحسب عنوان برنامج الوزير جورج قرداحي؟
لكنّ البرودة والسخط الشعبيّيْن اللذين رافقا ولادة الحكومة أظهرا أنّ اللبنانيين المتضرّرين إلى الحدّ الأقصى من سياسات السلطة الحالية غير مستعدّين للعفو عمّا مضى. حتّى لو استطاعت الحكومة، بالدعم الذي حصلت عليه من صندوق النقد والبنك الدوليّيْن، التخفيف من حدّة الأزمة، فإنّها لن تكون قادرة على تعويض خسائر اللبنانيين الفادحة التي ازدادت فداحة خلال الأشهر الـ13 الماضية. فهل يُراد من اللبنانيين أن يؤمنوا أنّ الجهات التي أوصلتهم إلى جهنّم هي نفسها التي ستخرجهم منها كما بشّرَ الرئيس عون؟!
وإذا كان تشكيل الحكومة بتواطؤ الداخل والخارج ضربةً قاضيةً لكلّ المسار السياسي الشعبي لانتفاضة 17 تشرين 2019 فإنّ التشكيك المطلق في المنظومة الحاكمة الذي أطلقته هذه الانتفاضة قد بنى جداراً عالياً بين الثورة السلطة. ولذلك السلطة والثورة هما الآن معزولان أحدهما عن الآخر، بل ويكنّان العداوة بعضهما للبعض الآخر، بحسب تعبير البطريرك بشارة الراعي.
كلّ مناورات النواة الحاكمة تهدف إلى طمس هذه الحقيقة ما دامت عاجزة عن تغييرها، وعن قلب عداء النواة الشعبية لها إلى تأييد. وإذا كان التيار الوطني الحرّ غارقاً في محدوديّة هامش حركته بالنظر إلى السخط الكبير الذي استجرّته سياسات العهد والوزير باسيل عليه، فإنّ الحزب قادرٌ حتّى الآن على الاستفادة من الانهيار. بل إنّ استراتيجيّته للداخل اللبناني قائمة على الاستفادة من الانهيار بشتّى الطرق، ومن ذلك استقدامه ناقلات النفط الإيرانية، وتوزيع حمولتها وفق الآليّة التي كشف عنها السيّد حسن نصرالله، معلناً دخول الحزب السوق النفطية اللبنانية، إلى جانب تكريسه معادلات الردع مع العدو الإسرائيلي!
هكذا يعملُ الحزب بجهدٍ عنه وعن حلفائه العاجزين، وفي مقدّمهم التيار الوطني الحرّ، في محاولة لتغيير المعادلة الشعبية العميقة التي كرّستها انتفاضة 17 تشرين، أي لمحاولة كسر حالة العداء الكامنة بين النواة الشعبية والنواة الحاكمة. هذه المهمّة لن يتولّاها الحزب لوحده، بل سيقحم الحكومة الجديدة فيها، ولذلك يمكن تسميتها منذ الآن حكومة انتخابات ربيع 2022.
انطلاقاً ممّا سبق، ستكون الوظيفة السياسيّة للحكومة إعداد أرضية سياسيّة وشعبية تضمن للائتلاف الحاكم، أي الحزب والعهد، الحفاظ على الغالبية النيابية في المجلس الجديد، وإلّا فإنّ الانتخابات لن تُجرى في موعدها ولا في غير موعدها. وهذا تحدٍّ رئيسٌ للرئيس ميقاتي. فإلى أيّ حدّ يمكنه القبول أو تحمّل أن تكون حكومته غطاءً للسياسات الانتخابية للحزب، وبالأخصّ للعهد المهزوم؟! وماذا عن فرنسا الراعية الدولية لهذه الحكومة، والتي بشّرت باكراً جدّاً بالانتخابات النيابية مدخلاً إلى التغيير السياسي في لبنان؟ هل تقبل بتحوّل الحكومة الميقاتية أداةً بيد العهد والحزب لحسابات انتخابية ورئاسية؟ وهل تنسى باريس بعد عودة الحرارة إلى علاقاتها مع طهران أنّ أولويّتها هي التغيير في لبنان؟ أم يكون الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يستعدّ للانتخابات الرئاسية الفرنسية مطلع الربيع المقبل مهيّأً للتضحية بالانتخابات اللبنانية لكي لا يُغضب إيران التي ابتزّته سنة كاملة عبر إخضاع مبادرته اللبنانية لشروطها؟
لكن إذا كانت خطّة العهد والحزب معروفة، فما هي خطّة المعارضة، أو بالأحرى خطة الوطنيين اللبنانيين الذين يرفضون أن تكون الحكومة الميقاتية مدخلاً لتكريس الاحتلال الإيراني للبنان؟
لا ريب أنّ البرودة الشعبية في استقبال حكومة ميقاتي شكّلت الإشارة السياسية الشعبية الأولى إلى رفض النواة الشعبية العميقة للحكومة الجديدة بوصفها حكومة أمر واقع دولي – إقليمي لا تمتّ إلى تطلّعات الشعب اللبناني إلى التغيير بصِلة. هذه البرودة هي ركيزة الفعل السياسي المعارض للحكومة التي تعكس ظروف ولادتها رغبة طهران في جعلها مدخلاً لتكريس هيمنتها على لبنان ربّما بتواطؤ فرنسي مشروط، إذ وضع ابتزاز الحزب وإيران لإدارة ماكرون لأكثر من سنة باريس في موقف ضعف تجاههما، وهذا واقع لن تقبل طهران بتبديله. لكنّ ضمان الحزب وإيران الموقف الفرنسي، وربّما الأميركي لاحقاً، لن يجعلهما يُقلعان عن محاولات ضمان أو خنق النواة الشعبية التي لا تزال حتّى الآن رافضة لهما. ومحاولات الحزب والعهد هذه هي المعطى السياسي الأساسيّ لعمل الحكومة وصولاً إلى موعد الانتخابات، والمعطى الحاكم لإجراء الانتخابات أو عدمه.
في المقابل، يُفترض أن تكون هذه المحاولات المعطى السياسي الرئيس الذي على أساسه تتبلور المعارضة السياسية الشعبية في مواجهة الحكومة ورعاتها الإقليميين والدوليين، على قاعدة أنّ هذه الحكومة ليست حكومة إصلاحات، بل حكومة انتخابات لتكريس الاحتلال الإيراني للبنان.