من قتل المصوّر العسكري في الكحّالة؟
بخطاهما المطمئنة، تقدّم القاتلان باتجاه جوزيف بجاني الذي كان في سيارته يتحضّر لإيصال أولاده إلى المدرسة. وبخطى واثقة تقدّم القاتلان من النقطة التي أتى ماشياً منها، لحقا به، فتح أحدهما باب السيارة أطلق من مسدس مزوّد بكاتم للصوت ثلاث رصاصات بطريقة إحترافية، تراجع خطوة إلى الوراء، ليتقدم زميله، ويدخل رأسه في السيارة، ولا نعرف ما الذي فعله. إذ لا تظهر الكاميرا ماذا فعل، لكن من حركة جسده المرصودة يظهر كأنّه عبث ببعض معالم الجريمة، وانتزع شيئاً ما، إما الهاتف أو كاميرا أو شيئاً آخر، أو رشّ مادّة لمنع فرق التحقيق من العثور على أيّ أدلّة بفحص DNA.
لم يرتبك القاتلان بعد الإجهاز على بجاني، اتّخذا طريقاً مختلفة عن التي جاءا منها، أغلقا باب السيارة، ومن أمامها سلكوا الطريق الوعر عبر أحد البساتين المحاذية للطريق. بالطبع ثمة من كان ينتظرهم بالتأكيد ليقلّهم، وثمة من كان قد أوصلهم، وهناك بالطبع من أعدّ مسرح الجريمة على مدى فترة طويلة، أجرى خلالها عمليات الرصد والتدقيق والمراقبة لاختيار الطريقة المناسبة والوقت المناسب.
الفيديو القصير وحده كافٍ ليشرح كلّ هذه المعالم، وبالتأكيد فالعملية نفّذها أكثر من الشخصين اللذين رأيناهما. هناك أكثر من 5 وربما 7 إلى 8 أشخاص. إذاً فهي فرقة قتل كاملة.
في لبنان فرق اغتيال منظّمة. هكذا قالت الصورة، التي كادت أن تنطق لشدّة هول ما نقلته. فيديو متقطع مدّته أقلّ من دقيقتين التقطته كاميرات مثبتة أمام مكان الجريمة في منطقة الكحالة، على بعد دقائق من القصر الجمهوري، ومن وزارة الدفاع وقيادة الجيش ومقار أمنية وعسكرية ورسمية محلية ودولية. فيديو يوثق عملية اغتيال منظّمة نفذها أشخاص محترفون. دون رفّة جفن.
لكن ماذا في المعلومات؟
جوزيف بجاني موظّف في شركة اتصالات. وهوايته “الاحترافية” هي التصوير، مما جعله مصوّراً عسكرياً في لبنان والخارج. وقد صوّر العديد من مناسبات الجيش والأنشطة العسكرية. لكنّه بحسب ما نشر على صفحته على موقع توتير في 31 آب 2020، اعتزل التصوير العسكري مع الجيش، وذلك بعد فترة قصيرة من تفجير مرفأ بيروت. ويعزو السبب إلى “الإنزعاج” إذ يقول في إحدى تغريداته : “قرّرت اعتزال التصوير العسكري بلبنان، الواحد بدو يترجّاهن ليصوّرهم، وبس يروح يصوّر بيحسّ حالو إرهابي، استروا ما شفتوا منّا، خلّونا نصوّر يلي بقدّر”.
لا سبب واضحاً لهذا العتب أو الإنزعاج، إلا إذا ما كان يتعرّض لبعض المضايقات، خصوصاً أنّه في لبنان معروف أنّ تصوير العسكريين والمواقع العسكرية أمر ممنوع.
ما بعد تاريخ اعتزاله التصوير العسكري في لبنان، ظهر نشاط بجاني في تصوير أنشطة عسكرية أجنبية، كطائرات المساعدات التي وصلت إلى لبنان بعد تفجير المرفأ، البارجة الفرنسية، أنشطة عسكرية لقوات اليونفيل وغيرها.
وفي الفترة الممتدة بين تاريخ تفجير مرفأ بيروت و31 آب الفائت، شهد لبنان أحداثاّ كثيرة قد يكون بجاني صوّر أجزاء أساسية منها. لهذا السبب انتشرت معلومات غير مؤكّدة وتحليلاتٍ سياسية كثيرة عن احتمال التقاط بجاني صوراً بعد تفجير مرفأ بيروت، وربما قد تكون الصور التي التقطها تسبّبت بحساسية أمنية أو عسكرية معينة. لا أحد قادر على جزم أو تأكيد هذه المعلومات، لكنّها متداولة بقوّة.
لا معلومات أمنية أو عسكرية جرى تسريبها، بخلاف أيّ عملية لها طابع جنائي تتعلق بخلاف شخصي، أو سرقة، أو ثأر. ولو أرادت الأجهزة الأمنية التسريب لكانت تسابقت في تسويق المعلومات التي لديها. وللبنانيين تجارب كثيرة في هذا المجال. إذ أنّ معظم المصادر الأمنية والأجهزة تحفّظت حول حقيقة ما حصل. وعندما يحصل هذا الكم من التكتم والتعتيم يكون خلف الجريمة أمر كبير يُراد إخفاؤه أو على الأقلّ تأجيل الإعلان عنه لسبب أو لآخر.
وقد علم “أساس” أنّ شعبة المعلومات وضعت يدها على الملف وبدأت في إجراء التحقيقات الأولية وفي تجميع المعلومات. كما أنّ معلومات الأجهزة لا تزال غير حاسمة في كشف الدفاع وراء الجريمة.
وأيضاً للبنانيين تجارب كثيرة حول جرائم لم يتمكنوا من معرفة حقيقة ما جرى فيها، ليس أوّلها اختطاف الموظف في المطار جوزيف صادر، ولا آخرها اغتيال العقيد جوزيف سكاف، والعقيد منير أبو رجيلي. ويقال إنّ سكاف كان قد وقّع على تقرير يتعلق بالتحقيق في قضية باخرة نيترات الامونيوم، وأبو رجيلي كان مسؤولاً عن مكافحة التهريب وربما يمتلك معلومات عن القضية منذ أيام وجوده على رأس عمله.
قبل فترة أيضاً حصلت عملية اغتيال لموظف في أحد المصارف، ولم تظهر أي ملابسات أو تسريبات حول الجريمة. مع الإشارة إلى أنّ أيّ جريمة لها خلفية سرقة أو ما شابه تنجح الأجهزة الأمنية، بما لديها من كفاءة عالية، ومعدّات وتقنيات متطوّرة، في كشف ملابساتها كاملة خلال أيام قليلة، وأحياناً خلال ساعات.
قد تكون جريمة اغتيال بجاني من الجرائم التي يجب عليها أن تبقى طيّ الكتمان. كما هو الحال بالنسبة إلى تفجير المرفأ الذي يراد ألا يعرف أحدٌ سببه الحقيقي. لكن بغضّ النظر عن كل هذه التحليلات والتكنهات، الجريمة بحدّ ذاتها تمثل فظاعة تدبّ الرعب في قلوب اللبنانيين. فارتكابها في وضح النهار، أمام عدسات الكاميرات لهو أمر مخيف. ويفترض بمن نفّذ أن يرصد أوّلاً وجود مثل هذه الكاميرات، لكنّه نفذ جريمته دون الاكتراث بها، ولاستشعاره بمنسوب القوّة والحماية فلم يعمل على تغطية وجهه مثلاً، وكما هناك كاميرا قد رصدته من الخلف، هناك بالتأكيد كاميرات أخرى رصدته من الأمام وكشفت وجهه.
سواء كانت العملية ذات طابع أمني يرتبط بمنع تسريب ما يمتلك بجاني من معطيات أو صور ذات طبيعة حساسة عن تفجير المرفأ، أو كانت جريمة قتل لأسباب شخصية، إلا أنّ الخلاصة تؤكد أنّ الواقع اللبناني مستباحٌ. وهذا يؤشّر إلى ارتفاع منسوب المخاطر، على أي مواطن عادي، بغضّ النظر إذا كان له أي علاقة بالشأن العام مثلاً.
الواقع الأخطر أنّ اغتيال أي صاحب رأي أو معلومة سيكون مباحاً أكثر في هذه الظروف، وإحالة الأسباب إلى التفلّت الأمني والفوضى الناتجين عن الوضع المعيشي المنهار، سيكون أمراً أكثر سهولةً.