هدى الحسيني
لم يكن الانسحاب الأميركي من أفغانستان خطأ استراتيجيًا ونقطة تحول في العلاقات الدولية سيتعزز من بعدها دور الصين في منافسة الولايات المتحدة على قيادة العالم، أو ستتفوق بالتحالف مع روسيا كما يروّج له البعض في عالمنا وبالأخص «الذين يمانعون».
إن أفغانستان ليست فيتنام، وانسحاب أميركا منها لم يكن بسبب صراع عالمي مع معسكر شرقي آيديولوجي تصارع معها وسدد لها لكمة موجعة كما حدث في جنوب شرقي آسيا في الستينات. أميركا لم تتلقَ أي صفعة من أحد في أفغانستان. بكل بساطة تركت الولايات المتحدة وراءها في أفغانستان قنابل متفجرة ستورط الصين وروسيا وإيران وكل من يدور في فلكها في صراعات إقليمية، ستضعف إمكانيات الصين وتجعلها تخسر التمدد والنفوذ اللذين حققتهما خلال العشرين سنة الماضية، لتبقى أميركا القوة العظمى الأولى بلا منازع. إن الانسحاب بغض النظر عن مظهره هو الحجر الذي أصاب كل الطيور بمهارة وذكاء خارق.
إن إحدى أهم القنابل المتفجرة هي شعور الكثير من أهل السنة بالغبن والاضطهاد على مدى عقدين، أقدم عليهما الأميركيون في كثير من الأحيان انتقاماً لاعتداءات 11 سبتمبر، فتسلمت إيران التلزيم وبرعت في إثارة النعرات ضد السنة وقمعهم بالترهيب والاغتيال والتهجير، هذا عدا عن الاعتداءات الأخرى في العالم وأشدها إجراماً ما يحصل في ميانمار وبورما وشينجيانغ في الصين من تطهير عرقي بشكل منظم ضد السنة، ولم يتحرك في الدفاع عنهم سوى بعض مجموعات حقوق الإنسان في أوروبا وأميركا.
من لا يعتقد أن أفغانستان بجبالها المسننة وتضاريسها، ومغاراتها وكهوفها، وتاريخها وطبيعة شعبها ستكون ملاذاً آمناً لكل سني متطرف، ينطلق منها شاءت «طالبان» أم أبت، سوف يكون قصير النظر وقليل المعرفة بالتاريخ. ولهذا تجهد الصين وروسيا وبعض الدول الإسلامية إلى التقرب وكسب ود «طالبان».
على كلٍّ سيترك الانسحاب الأميركي من أفغانستان فراغاً كبيراً وسوف تتأثر كل الدول المجاورة لأفغانستان. وروسيا أكثر من غيرها تشعر بالقلق والارتباك بعد 20 عاماً من حدود آمنة لجمت خلالها أميركا من حيث لا تدري المتطرفين الإسلاميين من القيام بعمليات إرهابية واتصال مع المتطرفين الروس.
روسيا هي الدولة التي دفعت غالياً المال وأرواح 15 ألفاً من خيرة جنودها في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي، وفي النهاية كانت أفغانستان سبباً مهماً في تسريع انهيار الاتحاد السوفياتي. لهذا فإن خيارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السياسية والعسكرية محدودة بعد وصول «طالبان» إلى الحكم، فهو لن يستطيع التفاهم أو الاتفاق معها على المديين المتوسط والبعيد لحماية أنظمة حلفائه في طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان حيث الغالبية السنية، وفي الوقت نفسه لن يجرؤ على القيام بمغامرة عسكرية هو غير قادر على حسمها، ثم إنه لا يملك الإمكانيات المادية لشنها.
إن انهيار حكومة أشرف غني التي كانت مدعومة من الولايات المتحدة دفع روسيا إلى موقف صعب. حتى عندما أكد الرئيس بوتين أن روسيا ليس لديها نية لنشر قوات في أفغانستان نفسها، فإن احتمالية التطرف والعنف حول حدود روسيا تفرض مسؤولية أكبر عن الأمن الإقليمي على موسكو في وقت تتصاعد فيه الصعوبات الداخلية. كما أن انهيار حكومة غني ورحيل القوات الأميركية من وسط أوراسيا، على ما يبدو إلى الأبد، كان يمكن أن يوفر لروسيا فرصة لتعزيز دورها كوسيط قوي داخل أفغانستان وحولها، وتعزيز رؤية التواصل الإقليمي التي تغذي مصالحها الخاصة، وترسيخ نفوذها السياسي والعسكري في آسيا الوسطى المجاورة. إلا أن كل هذه الخطوات ستتطلب موارد أكثر مما كانت القيادة الروسية مستعدة لها للاستثمار، ومخاطرة أكبر مما هي مستعدة لتحملها. يتركز اهتمام روسيا بأفغانستان قبل كل شيء على مخاوفها من تأثير ذلك على آسيا الوسطى المجاورة. منذ الانهيار السوفياتي، نظرت موسكو إلى آسيا الوسطى على أنها حاجز استراتيجي ضد عدم الاستقرار في الجنوب، ولا تزال روسيا المزود الأمني المهيمن في المنطقة، رغم النمو الهائل للتجارة والاستثمارات الصينية في السنوات الأخيرة. أصبحت دول آسيا الوسطى اليوم بشكل عام أكثر استقراراً وفاعليةً مما كانت عليه في التسعينات، ولا تزال ترى روسيا الضامن الأمني الرئيسي للمنطقة وتتجه الآن إلى موسكو للحصول على المساعدة؛ لأن مستقبل أفغانستان يتحدر أكثر إلى حالة من عدم اليقين.
طالبت روسيا منذ فترة طويلة بالاعتراف بـ«مصالحها المميزة» في جميع أنحاء منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي. الآن بعد أن تنازلت واشنطن عن الميدان في أفغانستان ووسط أوراسيا على نطاق أوسع، يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان موسكو فعلاً أن تلعب دور المحور الإقليمي الذي لطالما طمحت إليه، وتأمين نفسها وجيرانها دون إثارة رد فعل عنيف، بينما تدير في نفس الوقت التأثيرات على منافستها الولايات المتحدة…
تتركز أهداف موسكو الفورية على ضمان عدم انتشار أي حالة من عدم الاستقرار والفوضى من أفغانستان شمالاً. وتركز على تأمين السيطرة على تدفقات الهجرة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بـ«حماية المنطقة من عبور الإرهابيين للحدود تحت ستار اللاجئين». تسعى موسكو أيضاً إلى منع «انتشار الآيديولوجيا المتطرفة والأسلحة المهربة وتهريب المخدرات». ونظراً لأن روسيا تحافظ على نظام من دون تأشيرة مع معظم جيرانها في آسيا الوسطى، فإنها تخشى من أن الإرهابيين الذين يعبرون من أفغانستان يمكن أن يشقوا طريقهم بسهولة إلى روسيا. ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال أن يؤدي تدفق اللاجئين إلى زعزعة استقرار دول آسيا الوسطى نفسها، مما يؤدي إلى هروب مجموعة من مواطني تلك الدول إلى روسيا وإجبار موسكو على التدخل بشكل أكثر مباشرة في المنطقة. لهذا السبب، تشعر السلطات الروسية وآسيا الوسطى بالقلق من انهيار النظام الأفغاني، لا سيما في شمال أفغانستان، حيث يعيش معظم السكان من أصل طاجيكي وأوزبكي. ولطالما حافظت حكومات موسكو وآسيا الوسطى على علاقات مع الطاجيك والأوزبك في شمال أفغانستان ومع شخصيات مثل عبد الرشيد دوستم. في غياب برنامج معارضة موحد مثل التحالف الشمالي، يخشى المسؤولون الروس من أن المقاتلين المناهضين لـ«طالبان» في الشمال قد يتحولون اليوم إلى مجموعات أكثر تطرفاً مثل «القاعدة» و«داعش»، فرعها الإقليمي، أو جماعة أنصار الله، التي دعا مؤسسها إلى إقامة إمارة إسلامية في طاجيكستان. يمكن أيضاً استكمال صفوف الجهاديين ببعض من عدة آلاف من الروس وآسيا الوسطى الناطقين بالروسية الذين ذهبوا إلى سوريا للقتال، والذين يمكن تحفيزهم للعودة إلى أفغانستان بسبب رحيل الولايات المتحدة. تخشى الحكومات في موسكو وعواصم آسيا الوسطى من أن الجهاديين المتمركزين في شمال أفغانستان يمكن أن ينفذوا هجمات عبر الحدود، كما فعلت الحركات الإسلامية في أواخر التسعينات. لكنهم قلقون أيضاً من أن عدم الاستقرار في أفغانستان يمكن أن يؤدي إلى تدفق اللاجئين ويشجع على انتشار الآيديولوجيا الجهادية بين شعوب وسط آسيا المحبطين بالفساد والقمع وانعدام الفرص في الداخل. وبالتالي، فإن روسيا، مثل آسيا الوسطى، مترددة في استقبال اللاجئين الأفغان، خشية أن تشمل صفوفهم أعضاء في القاعدة أو «داعش» أو جماعات متطرفة أخرى…
يمنح رحيل الولايات المتحدة موسكو فرصة لتعزيز وجودها الأمني وتقوية المنظمات الإقليمية، وعلى رأسها منظمة معاهدة، «المصالح المتميزة» وتحتفظ روسيا بالفعل بوجود كبير للقوات في قرغيزستان وطاجيكستان، اللتين تقاطعت حربهما الأهلية 1992 – 1997 مع الصراع المجاور في أفغانستان. إن موسكو هي القوة الدافعة وراء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي كتلة أمنية إقليمية تهدف إلى ضمان «السلام والأمن والاستقرار الدولي والإقليمي وحماية استقلال الأعضاء، على أساس جماعي وسلامة الأراضي والسيادة». كما ساعدت روسيا أيضاً في تعزيز حدود المنطقة من خلال التدريب ومبيعات المعدات العسكرية، ونشرها، بعضها تحت رعاية منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
مع بدء اقتراب قوات «طالبان» من كابل، أجرت القوات الروسية تدريبات مشتركة مع الجيش وقوات الأمن في طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. بعد سقوط كابل في أيدي طالبان، وافقت موسكو على طلب من حكومة طاجيكستان لعقد اجتماع استثنائي لمجلس الأمن التابع لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي وسمحت بمبيعات أسلحة إضافية… وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى التعاون الأمني الروسي المتزايد مع أوزبكستان ذات الوزن الإقليمي الثقيل، والتي انسحبت من منظمة معاهدة الأمن الجماعي في عام 2012 وحافظت لاحقاً على علاقات متوازنة مع موسكو وواشنطن وبكين.
وفي أبريل (نيسان)، وقعت موسكو وطشقند اتفاقية شراكة استراتيجية جديدة. ويشير بعض المراقبين الروس إلى أن الأزمة الحالية هي فرصة لإعادة أوزبكستان إلى حظيرة منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ورغم رفض طشقند بشدة هذا الاقتراح، فإن الانسحاب الأميركي يجبرها، مثل جيرانها، على التطلع أكثر إلى روسيا للحصول على الدعم، لكن في بيئة غير مؤكدة لتعزيز دورها كمحافظ على أمن المنطقة.
ستقل قدرة موسكو على تكريسها لمناطق أكثر أهمية مثل أوروبا الوسطى والشرقية. وفي حال قرر الكرملين العودة إلى أفغانستان عسكرياً، وهو حدث غير مرجح، فمن المؤكد أنه سيجد نفسه محبطاً ومربكاً مثل كل من الولايات المتحدة، وأيضا الاتحاد السوفياتي الذي أقدم على مغامرة احتلال أفغانستان عام 1979. تغيرت «طالبان» أو لم تتغير، نجح الانسحاب الأميركي من أفغانستان في تحريك مياه آسنة ستشعر بها كل دول المنطقة هناك، خصوصاً عندما تركز أميركا على الصين. أما روسيا فإنها وقعت في الفخ.
المصصدر: الشرق الأوسط