ماذا بعد العاصفة؟
في قراءة سريعة لما بين غزة وإسرائيل، لا بد من السؤال: كيف تمكنت حركة “حماس” المحاصرة من البر والبحر والجو، من تخزين او تصنيع هذا الكم الهائل من الصواريخ؟ وكيف تمكنت من حفر مئات الانفاق في اتجاه الدولة العبرية في مكان والأراضي المصرية في سيناء في مكان آخر؟
وثمة سؤال آخر: من دَّرب “حماس” ومنظمة “الجهاد الإسلامي” على إطلاق هذه الصواريخ في شكل لا يفتقر إلى الدقة في التصويب والحرفية في الانتشار والتضليل.
قد لا يبدو الجواب بعيدا او صعبا، اذا تراءى جيدا مدى التشابه بين حرب الصواريخ من غزة في اتجاه إسرائيل، وحرب الصواريخ من منصات “حزب الله” خلال حرب تموز، وحرب الصواريخ من منصات الحوثيين في اتجاه السعودية، وهي منصات، تشاء الصدف أن تدور جميعها في الحلقة الإيرانية وتحديدا في حلقتي الحرس الثوري والمقاومة الإسلامية في لبنان.
واذا كان هذا العرض منطقيا بفعل تشابه الأحداث، يبقى السؤال الأهم: كيف وصلت هذه الترسانة الصاروخية الى “الحماسيين” و”الجهاديين” في هذا القطاع الصغير، الذي يضم نحو مليوني نسمة في وقت تتغنى إسرائيل بقدرتها على رصد اي خطر قد يطاولها او يتربص بها، سواء من دول الجوار او من الدول البعيدة وتحديدا إيران.
يصر الكثير من المراقبين الاقليميين والدوليين على القول إن طرفا ثالثا، محترفا في أمور التهريب والتسلل والتستر والمناورة، هو من ساهم في تحويل غزة المحاصرة وشبه المعدمة، الى ثكنة عسكرية تكاد تكون نسخة منقحة عن جنوب لبنان، وهو من تولى احتضان عناصر من “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إضافة إلى الحوثيين، وتهيئتهم لهذا النوع من الحروب، التي تستطيع أن تشكل عند الحاجة أوراق ضغط واحراج لخصومها اكثر من أوراق حسم وانتصارات مطلقة.
ويتردد في الأوساط الإسرائيلية أن المعركة الحقيقية بعد هدوء العاصفة مع غزة، ستكون البحث عن المعابر التي تربط القطاع بالعالم الخارجي، وعن مخازن الصواريخ او أماكن تصنيعها، ورصد أي خلايا غريبة تمكنت من التسلل إلى المنطقة، اما بصفة مدربين او مقاتلين او خبراء في حروب الاستنزاف وحروب الشوارع وتلك التي تدور في الأماكن المدنية.
ويتوقع هؤلاء المراقبون أن تنتقل إسرائيل من حرب الغارات الجوية إلى حرب التصفيات، التي تطاول الأذرع العسكرية الفلسطينية من جهة، وتلك التي تسهم من جهة اخرى في شد سواعدهم إلى الحد الذي وصلت إليه الأمور في المواجهة الأخيرة.
ويكاد لا يختلف اثنان في هذا المجال على أن ما جرى شكل نقطة سوداء في سجل الاستخبارات الإسرائيلية، التي فاتها ما يجري في عقر دارها، وركزت على قوافل الصواريخ التي تحاول العبور إلى “حزب الله” في لبنان، او على مدى التقدم الذي يحرزه البرنامج النووي في إيران، وعلى محاولات التطبيع مع عدد من الدول العربية، اعتقادا منها بأن هذا النوع من الخطوات السلمية يمكن أن يسهم في تطويق خيارات المقاومة المسلحة، وتغليب المصالح الاقتصادية والخطوات التصالحية على سواها من أساليب التحدي والقطيعة والانغلاق.
ويذهب هؤلاء بعيدا إلى أمرين أساسيين: إن إسرائيل لم تكن تتوقع أن تأتيها عملية الإلهاء في المواجهة المحتملة مع إيران من قطاع غزة تحديدا، بل من مرابض “حزب الله” في لبنان وسوريا، ولم تكن تتوقع أيضا أن تتجرأ إيران على تحريك حلفائها في فلسطين ودفعهم إلى الضرب في العمق، والمخاطرة بتفجير كل الجبهات دفعة واحدة.
وهنا لا بد من السؤال: ماذا في الحصاد الذي أعقب عمليات القصف المجنون بين الطرفين؟
الواقع، أن قطاع غزة أثبت أنه يستطيع أن يكون أداة ضغط وإحراج وارباك للقادة العسكريين الأمنيين في إسرائيل، وليس أداة تحرير او فتوحات، إذ أن أي غطاء صاروخي او مدفعي، لا يتضمن تحركات برية، ليس الا حرب استنزاف مكلفة تنتهي في مرات كثيرة بانهاك المقاتلين وتدمير البنى التحتية والحيوية والتحصينات العسكرية وتصفية الرؤوس الكبيرة وتهجير المدنيين، و بتحويل بعضهم إلى ضحايا وبعضهم الآخر إلى دروع بشرية.
وهنا نعود بالذاكرة إلى “حرب التحرير” التي خاضها الجنرال ميشال عون ضد الاحتلال السوري على مدى اشهرعدة، في مغامرة أدت إلى ثلاث نتائج دراماتيكية:
– استنزاف القوات الموالية له على مستوى العناصر والضباط والفرق الاحترافية، وتفريغ مخازنه من الذخائر، وتأليب الرأي العام العربي والدولي على حكومته الانتقالية.
– إطلاق يد الجيش السوري، وفتح الطريق أمامه لقلب المعادلات، وخرق الخطوط الحمر، والعودة إلى المنطقة الشرقية من بيروت،
– وضع لبنان كله تحت مظلة النظام الحاكم في دمشق بتكليف رسمي ودولي مستند إلى اتفاق الطائف، الذي حول مغامرات عون إلى نصوص دستورية مكتوبة هذه المرة لا متفق عليها لا شفويا ولا وديا.
وما أصاب عون، أصاب بعده” حزب الله” في حرب تموز التي خاضها بعيدا من اي دعم عربي او دولي، لتنتهي بفريق لبناني تمكن من الصمود عسكريا والتوسع شعبيا وسياسيا، وفريق إسرائيلي تمكن من انتزاع القرار ١٧٠١، أي” الحارس” الذي يضمن امن الحدود الشمالية بغطاء دولي وآخر رسمي لبناني.
وليس المقصود هنا التقليل من شأن الكفاءة العالية التي أبداها “حزب الله” والغزاويون في مواجهة إسرائيل، بل المقصود الإضاءة على هذا النوع من الحروب التي تثير حماسة بعض الشوارع العربية والجاليات الإسلامية والمنظمات الحقوقية هنا وهناك، لتنتهي كما انتهت في حروب لبنان، أي جمر تحت الرماد في مكان وتفاهمات فوق الطاولة وتحتها في مكان آخر.
وقد يقول قائل، أن ما جرى في غزة حال دون أمرين أساسيين: أولا انه عرقل اكبرمناورات عسكرية كانت تستعد إسرائيل لاجرائها وتحاكي التهيؤ لعدة مواجهات وعلى اكثرمن جبهة، وقطعت ثانيا الطريق على غارات قيل إن إسرائيل كانت تستعد لشنها ضد المرافق النووية والصاروخية في إيران نفسها.
واكثر من ذلك أيضا، قد يقول قائل إن معركة غزة شكلت نوعا من الانتقام غير المباشر لمقتل قاسم سليماني وضرب بعض المرافق النووية في إيران، وانها أثبتت في علم الوقائع انها شكلت مشهدا لفريق عربي معزول متوجه إلى الحرب، وفريق عائد منها، وفريق يكتفي بالمراقبة من بعيد ، وكيان إسرائيلي يعرف ان العرب تغيروا ولا سيما “عرب ايران” وانهم باتوا اكثر كفاءة وأكثر تنظيما من جيوش عربية خاضت مع إسرائيل خمس حروب منذ ابتلاع فلسطين في العام ١٩٤٨، وان من تواجههم منذ اجتياح بيروت في العام ١٩٨٢ لا يخضعون لأي دولة او نظام لا بل يتفوقون على الدولة التي يقيمون فيها ولا سيما في لبنان والعراق واليمن وفي سوريا في السنوات العشر الأخيرة.
لكن إسرائيل تحتفظ بورقة ثمينة جدا وتتمثل في أن أميركا تشكل بالنسبة إليها حليفا طبيعيا في مواجهة القنبلة النووية الإيرانية و”حزب الله” والحشد الشعبي، إضافة إلى المنظمات الأصولية والتكفيرية، وهو ما يفسر الحشد الجوي والبحري الأميركي قبالة إيران بالتزامن مع معركة غزة، في رسالة واضحة إلى إيران تحمل تحذيرات من مغبة مواصلة الحرب عبر “حماس” او فتح جبهة جديدة عبر “حزب الله”.
وتحتفظ اسرائيل ايضا بورقة يعتد بها وهي الاعتماد، ولو اعلاميا وديبلوماسيا، على أوروبا القلقة من استراتيجية ممانعية تتوغل في أراضيها على شكل خلايا نائمة تعمل في مجال الإرهاب والتهريب وتبييض الاموال وانتهاك القوانين والدساتير وانظمة الحكم والتلاعب بالمعادلات الديمغرافية والدينية وسواها.
وأكثر من ذلك، أدت صواريخ غزة إلى تحويل إسرائيل في نظر قسم كبير من الرأي العام الدولي إلى دولة يمكن اختراقها من الخارج والداخل معا تماما، كما حدث في المدن الإسرائيلية والضفة الغربية، وخلخلة تفوقها العسكري ، على الرغم من الكفاءة التي اظهرتها “القبة الحديدية “، وأيضا إلى “نمر مجروح” لن يتوانى عن أي شيء لرد الاعتبار إلى هيبته الأمنية المهشمة، وأن العالم الغربي لن يتوانى عن أي شيء لامتصاص النفوذ الإيراني القائم حول الخليج من جهة اليمن وحول إسرائيل من جهتي لبنان وسوريا ، وأن العرب أنفسهم لن يتوانوا عن أي شيء لمنع إيران وحلفائها من تهديد مصالحهم الحيوية وانظمتهم الحاكمة، وتزعم العالمين العربي والإسلامي، وتطويق ميول البعض منهم إلى الانفتاح على النظام العالمي الجديد وفي مقدمها الانفتاح والتطبيع مع الدولة العبرية.
من هنا يمكن القول إن ما أصاب ويصيب محور الممانعة، يتمثل في أن ساعده اشتد في الزمن الخاطئ، وأن قدرته على تغيير معادلات جاءت في وقت تغير فيه العالم، مع انتهاء الحرب الباردة من جهة، ومع تحول الصراع على النفوذ العسكري إلى صراع على النفوذ الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي، ومع دخول سلاح العقوبات على خط المواجهات الردعية الخالية من المواجهات المباشرة.
وفي اختصار، يمكن القول أيضا إن ما جرى في غزة شكل درسا للفريقين المتصارعين، فهو أكد لحركة “حماس” أن رشقات من الصواريخ لا تسترجع فلسطين، وأكد لإسرائيل أن مئات الطائرات الحديثة لا تستطيع الاحتفاظ بكل شيء من دون أي محاسبة دورية او اثمان موسمية.
وفي اختصار ايضا، لا بد أن تؤدي حرب غزة الى ما أدت إليه كل حروب العرب، أي حروبٌ تستعيد بعض الكرامة ولا تستعيد كل الأرض، وجيوش تذهب الى الجبهة متعافية ومتحفزة وتعود مرهقة ومنهكة وحاضرة للدخول في تهدئة لا تحمل سلاما دائما ولا تضمر عداءً مطلقا.
انها الحرب او الحروب التي يقتصر العداء فيها على القواعد العربية ويختفي من قممها، أو أنها الشهادة التي تسقط حيث يجب والحصيلة التي تأتي بما هو أبخس من دماء المحاربين، أي قرارات دولية تحمل السلام إلى إسرائيل والامل الى المقاتلين على غرار الجنوب والجولان، تماما كما كان الأمر في الأردن وسيناء قبل خيار السلام.