الكلام عن فلسطين بلغة مهشمة
إلا أن التبعية درجات، والصمت أنواع، ومراكزه أيضاً. الصورة الأبسط من هيراركية التابعين، نراها في سوق العمل المعولم وهي تشترط إجادة لغة من اللغات المهيمنة كشرط أساسي للولوج إليه، تراتبيات اللغات داخل المجتمعات التابعة نفسها، حقول البحث الأكاديمي والنشر، شبه الحصرية، وهي تنفي خارجها من لا يجيد الإنكليزية أو لغة أوروبية رئيسية أخرى. في هذه الحقول، لا يمكن للتابع سوى الكلام بلغة الآخر، ومن داخل منطِقِه ومؤسساته، أو الصمت كلياً.
أتذكر تلك الملحوظة العابرة التي قرأتها قبل سنوات، في كتاب عن تاريخ الإرساليات البروتستانتية في المنطقة. في فصل عن المطبعة العربية الأولى التي جلبتها واحدة من الإرساليات إلى قبرص، يشير الكاتب، ببعض السخرية، إلى أن فن الطباعة العربية الأول، والذي سيظل معتمداً لوقت طويل بعدها، كان يسمى” العربي الأمريكاني”. الآلة الكاتبة العربية الأولى أيضاً، صناعة أميركية. تُغيّر التقنية سؤال اللغة كله، جوهرياً، في الكيف، لا الكمّ فقط. أما سؤال سبيفاك عن إمكانية الكلام، والذي طرحته في أوائل الثمانينات، فيفقد اليوم مجازيته، ويغدو حرفياً.
المنصات الرقمية التي بُشّر بها قبل عقدين، كوسيلة للتغيير، تتراكم آلياتها الرقابية مع الوقت. رقابتها هي ذاتها، تضاف إليها لجان الأنظمة وأجهزة تتبعها. وفي السياق العربي، المُحاصَر فيه كل حق في الكلام تقريباً، فإن شبكات التواصل الاجتماعي ليست مجرد خيار بين خيارات عديدة، بل غدت، من دون أن ندري، البنية التحتية الوحيدة المتاحة للكلام، للقدرة على التواصل والتمثيل في حيز عام.
منذ انطلاق احتجاجات الشيخ جراح، يعود السؤال أكثر إلحاحاً، هل يمكننا الكلام عن فلسطين؟ هل يمكن لفلسطين أن تتكلم؟ لغة وسائل الإعلام الغربية مراوغة، إن لم تكن متحيزة بوضوح. في معظم العواصم العربية، لم يعد الخروج للشوارع ممكناً لأي سبب، حتى للتضامن أو لمجرد الهتاف ضد إسرائيل. تعلمت الأنظمة أن التظاهر يظل تظاهراً في أي حال، وأن الهتاف ضد الاحتلال سينقلب ببساطة نحوها في اللحظة التالية. حتى في باريس، وفي برلين، تُفرض القيود على حق التظاهر تضامناً مع الفلسطينيين، مرّة باسم الأمن العام، ومرة بتهمة معاداة السامية، وهنا تعود مرجعية التاريخ الأوروبي للظهور. كيف لنا أن نتكلم عن فلسطين من دون عقدة الذنب الأوروبي تجاه اليهود؟ ومن دون أن تَفرض علينا أشباحُهم الصمت؟
في العالم الافتراضي، من منصة إلى أخرى، نرى حذفاً للمنصات المتعاطفة مع فلسطين، حسابات شخصية يتم تجميدها، منشورات بعينها تُمسح أو تُحجب. عمليات الفرز والرقابة والقص والعقاب مبرمجة بلوغاريتمات، ترصد بشكل آلي لائحة من الكلمات والعلاقات بينها، وتمحوها. المستخدمون يلجأون إلى التحايل، هناك كلمات وأسماء تم وصمها، ورُحّلت إلى قفار الخرس الإلكتروني. لا يقدر التابع على الكلام سوى بتشويه لغته، في جعلها غير مفهومة عمداً. يحاول المستخدمون تشفير نصوصهم، لتضليل اللوغاريتم، يتم تفكيك الكلمات، ومن ثم إعادة تركيبها مع تطعيمها بحروف لاتينية أو بأرقام أو علامات ترقيم. يُغيّب حرف أو أكثر من الكلمة، وتوضع فراغات محله، أو تُفرط حروف الكلمة ويتم رصها بمسافات بينها. مرات تكون الجُمل عصية على الفهم من فرط مراوغتها، وأحياناً تبدو كعملية أذى ذاتي، تفجيرات من الداخل لمنطق اللغة وبنية الكتابة الأساسية، صورة مصغرة للجنون، كاختلال لعلاقة العلامة اللغوية بالمعنى، جنون مصطنع وادعائي واضطراري.
أنظر إلى الشاشة، وأرى منشوراً بعد آخر، وتراودني الفكرة: لعلنا في حاجة إلى معجم صغير لكل تلك الكلمات المبرحة بتشوهات الرقابة والتحايل عليها. معجم مرن يمكن أن يتتبع تغيراتها المتوالية وخريطة أذواقها وطرافتها وتعقيدها وسذاجتها ودلالاتها المؤسفة.