فلسطين في مهب رياح الصحراء المغربية
تحقق ما أثرناه في مقال سابق على موقع “بوست 180″، من مقايضة الصحراء الغربية بالتطبيع الكامل مع الدولة العبرية، (واشنطن تبتز المغرب بورقة “الصحراء”.. هل نتخلى عن فلسطين؟- عبد الرحيم التوراني07/09/2020)، إذ تلا تغريدة دونالد ترامب مباشرة الإعلان عن توصل المغرب وإسرائيل إلى اتفاق من أجل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الجانبين، ولينضم المغرب إلى الطابور العربي لمشروع ترامب بتحقيق ما يسميه بـ”الاختراق الهائل للسلام في الشرق الأوسط”.
ما حدث لم يكن مفاجئاً أو مثيراً على الإطلاق، إذ مهدت له أحداث سابقة تلاحقت لترجع بالأزمة السياسية بين الجزائر والمغرب إلى بدايات احتدامها عند نشأتها الأولى زمن الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي.
من بين تلك الأحداث ما سمي بـ”دبلوماسية القنصليات”، والتي تمثلت في إقدام عدد من الدول الإفريقية على فتح تمثيليات قنصلية لبلدانها في مدينتي العيون والداخلة في الصحراء الغربية المتنازع عليها. وكان لافتاً للإنتباه فتح قنصلية لدولة الإمارات وأخرى لدولة البحرين. وقتذلك، تحدث المراقبون عن رائحة اكتمال طبخة التطبيع بين المغرب وإسرائيل في مقابل اعتراف أميركي بالسيادة المغربية على إقليمي وادي الذهب والساقية الحمراء المشكلين لجغرافية الصحراء الغربية.
إثر ذلك، كانت عملية إعادة فتح “معبر الكركرات” بعدما جاءت عرقلة مليشيات البوليساريو العبور منه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير”، وأسفرت عن اتهامات متبادلة بين الجانبين، خصوصا أن تدخل القوات المغربية لإعادة فتح المعبر حظي بترحيب وارتياح واسعين من جانب عدد من دول في إفريقيا والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، فيما نوهت به أيضاً منظمة الأمم المتحدة. وكانت الجزائر هي الدولة الوحيدة التي عبرت عن استيائها من إعادة الانسياب الطبيعي لحركة العبور في “الكركرات”. وقال وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم إن الوضع في الصحراء الغربية “خاصة التطورات الخطيرة التي شهدناها مؤخراً، يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للجزائر”.
وأشار الوزير الجزائري، خلال الدورة غير العادية الحادية والعشرين للمجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي في مطلع كانون الأول/ديسمبر الحالي، إلى أنه “بالإضافة إلى محاولات فرض سياسة الأمر الواقع على أراضي عضو مؤسس لمنظمتنا، أدت التجاوزات المسجلة على مدنيين في منطقة “الكركرات” إلى فرض تحديات جدية من شأنها تقويض حالة السلم والأمن في المنطقة برمتها”. وخلص بوقادوم إلى أنه “لا يمكن لمنظمة الاتحاد الإفريقي التي كان لها الدور البناء في إعداد واعتماد مخطط التسوية الأممي أن تظل مُغيبة”.
من الجانب الآخر، عبر خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الخامسة والأربعين لـ”المسيرة الخضراء” عن تأهب المغرب لحماية أرضه ومواطنيه. وفي الوقت ذاته، عبر مسؤولون في الخارجية المغربية والمندوب المغربي في الأمم المتحدة عن استعداد بلادهم للحوار مع الجزائر لحل كل الخلافات العالقة، علماً بأنّ المغرب ظل دائما يتهم الجزائر بالتورط في دعم الانفصاليين، وهو ما كانت تنفيه الجزائر، مشددة على التزامها بدورها المبدئي في الوقوف إلى جانب دعم حركة تحرير تطالب بالحق في تقرير المصير.
إلا أن هذا الخطاب الجزائري سيتوارى إلى الخلف، حين ستكشف الجزائر عن وجهها، بالقول إن ما يحدث ويجري حاليا في منطقة الصحراء الغربية يتصل بأمن الجزائر الاستراتيجي الذي يتجاوز حدودها الجغرافية، وهذا اعتراف واضح بأنها طرف أساسي ضمن الأطراف المعنية بالنزاع.
عملية “أطلس أسني“
خلال الشهر الحالي، تحل ذكرى إغلاق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب، والتي بلغت عامها السادس والعشرين، منذ تاريخ الإغلاق المصادف ليوم الاثنين 19 كانون الأول/ديسمبر عام 1994.
قبل حوالي أربعة أشهر من ذلك التاريخ، وفي عز الصيف والموسم السياحي، وقعت تفجيرات إرهابية في فندق “أطلس أسني” في مدينة مراكش السياحية في وسط المغرب، تورط فيها فرنسيون من أصول جزائرية ومغربية. واتُهِمت الاستخبارات الجزائرية بالوقوف وراء هذا العمل الإرهابي الذي يستهدف السياحة في البلد وقد خلف ضحايا وقتلى أجانب.
تم اعتقال ثلاثة فرنسيين من أصول جزائرية هم: هامل مرزوق، واستيفان آيت يدر، ورضوان حماد، حيث حكم على اثنين منهما بالسجن المؤبد وعلى الثالث بالإعدام.
نفت الجزائر اتهام المغرب بأن تكون وراء الحادث الإرهابي، إلا أنه في سنة 2010، وفي مقابلة صحافية خاصة مع وكالة “قدس بريس”، كشف خبير أمني جزائري اسمه كريم مولاي، بعد انشقاقه عن النظام الجزائري، أنه هو من رتب كل الأمور اللوجستية للحادث الإرهابي في فندق “أطلس آسني” في يوم 24 آب/اغسطس عام 1994، بصفته ضابطا في الاستخبارات الجزائرية، وأن استخبارات الجزائر هي من خططت ونفذت الهجوم المسلح في مراكش.
ومما قاله كريم مولاي: “لقد كنت يومها ضابطاً في صفوف الاستخبارات الجزائرية، وتوليت مهمة الإعداد اللوجستي لتلك العملية، ردا على العاهل الراحل الملك الحسن الثاني، الذي صرح بأنه كان الأفضل للنظام الجزائري أن يعطي فرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي فازت في الانتخابات البرلمانية أواخر العام 1991”.
كانت تفجيرات مراكش رسالة واضحة إلى المغرب بعدم الاقتراب من الوضع الداخلي الجزائري الحارق، أو الخوض في ملف الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
يومها كانت الجزائر تغوص في الدم في ما عرف لاحقا باسم “العشرية السوداء”، وكانت عملية مراكش تعني تصدير الصراع الداخلي المسلح في الجزائر إلى الخارج.
بعد عملية “أطلس أسني” فرض المغرب تأشيرة دخول على المواطنين الجزائريين، ما أنتج رداً مماثلاً ، تمثل في سلوك “أسلوب المعاملة بالمثل”، حيث فرضت الجزائر التأشيرة على المواطنين المغاربة، وزادت بإعلان من طرف واحد بإغلاق حدودها البرية مع المغرب.
ومنذ ذلك الوقت، لم تتم إعادة فتح الحدود بين البلدين الجارين، وبدأ فصل جديد من التوتر بين الجزائر والمغرب، يرشح من أزمات سابقة وخلافات حول الحدود، تطورت لتشمل ملف الصحراء الغربية.
أكبر من برقية تهنئة
لما وصل الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون إلى “قصر المرادية” (كانون الأول/ديسمبر 2019)، سادت أجواء إيجابية من التفاؤل والتطلع إلى قرب حدوث انفراج في العلاقات الجزائرية – المغربية. هي أجواء أوحت بها كلمات البرقية التي بعثها العاهل المغربي محمد السادس إلى الرئيس الجزائري الجديد، وتضمنت تهنئة مليئة بإشارات الترحيب والاستعداد لتجاوز الخلافات القائمة بين الدولتين، والدعوة إلى المبادرة إلى فتح الحدود وطي صفحة النزاعات.
إلا أن التطورات اللاحقة أثبتت عكس ذلك، حين أكدت وهمَ حصول اختراق حقيقي وجوهري في العلاقات الجزائرية ـ المغربية، بناء على تهنئة دبلوماسية، إذ سيسارع الرئيس تبون إلى مطالبة المغرب بالاعتذار عن فرضه للتأشيرة على المواطنين الجزائريين عام 1994، ووصف في مناسبة تالية الصراع في الصحراء الغربية بكونه “مسألة تصفية استعمار”، وأن “القضية بيد الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي”، ما أكد تعقيد الأزمة بين الجارين، وبأن لا جديد تحت الشمس، وبأن التوتر بين الجزائر والمغرب سيستمر بظلاله السلبية المنعكسة على نهوض “الاتحاد المغاربي” بمهامه التنموية في المنطقة.
وبرغم تأسيسه في العام 1989، ظل الاتحاد المغاربي في حالة عجز وشلل، ولم يتمكن من ترجمة برامجه الاقتصادية بسبب الخلاف السياسي بين الجارين. وتعود آخر قمة اقتصادية مغاربية إلى العام 1994 في تونس، وبعدها عرف الاتحاد جمودا لافتا وصف بـ”الموت السريري”.
لم تنفك الرباط منذ زمن في توجيه إشارات الاستعداد للحوار لطي ملف الأزمة المزمنة مع الجزائر، فقبل عام من انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا، صرح محمد السادس في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 باستعداد المغرب لـ”تجاوز كل الخلافات” مع الجزائر، مقترحا إنشاء آلية سياسية للحوار والتشاور بين البلدين. ودعا إلى “طرح القضايا الثنائية العالقة على الطاولة بشفافية ومسؤولية والتعاون الثنائي بين البلدين في المشاريع الممكنة”، موضحاً أنه “يجب الاعتراف بأن العلاقات مع الجزائر غير طبيعية وغير معقولة”.
عقب هذا الخطاب الملكي، دعت الجزائر إلى تنظيم قمة مغاربية في إطار الاتحاد المغاربي، في أقرب الآجال. وعلق بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، إن هذه “المبادرة تندرج ضمن القناعة الراسخة للجزائر التي أعربت في عديد المرات عن ضرورة الدفع بمسار الصرح المغاربي وبعث مؤسساته، كما أنها تأتي امتدادا لتوصيات القمة الاستثنائية الأخيرة للاتحاد الإفريقي في إثيوبيا حول الإصلاح المؤسساتي ودور المجموعات الاقتصادية الإقليمية في مسار اندماج الدول الإفريقية”.
استمرار حرب الرمال
لكن آمال المراقبين خابت في أن تمهد خطابات التهاني المتبادلة بين محمد السادس وعبد المجيد تبون لحدوث تقارب جزائري – مغربي يعيد الود والدفء إلى العلاقات الثنائية، إذ لم يحدث أي جديد يشي بحلحلة العلاقة، فحجم موروث الأزمة أكبر، منذ الصدام العسكري الذي اشتهر في الأدبيات التاريخية باسم “حرب الرمال” عام 1963، بعد سنة من استقلال الجزائر، بسبب الخلاف حول الحدود التي سطرها المستعمر الفرنسي بين الجارين، إلى أن جاءت قضية الصحراء الغربية، وقامت الجزائر بدعم الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) المطالبة باستقلال الصحراء الغربية، غداة سيطرة المغرب عليها إثر جلاء المستعمر الإسباني عام 1975.
وبات النزاع حول الصحراء هو المشكلة الأخطر بين الجزائر والمغرب، نتجت عنها حرب طاحنة بين المغرب والبوليساريو وبمشاركة جيش الجزائر في المعارك، لكن الاخيرة ظلت تنفي ذلك.
وساد سباق جزائري مغربي مجنون إلى التسلح، سباق أنهك خزينة البلدين بمليارات الدولارات خصصت لموازنة تحديث البنية العسكرية في الجانبين. حرب حامية الوطيس استمرت 16 عاما أوقفها قرار أممي في العام 1991. وتخللت ذلك جملة من الأحداث الأمنية والهجومات الإعلامية المتبادلة والمستمرة. وعمد المغرب إلى تشديد الحماية العسكرية على الحدود البرية ببناء جدران أمنية لمنع عمليات التسلل والتهريب عبر الحدود. لكن أبرز الأحداث خلال هذه الفترة كانت قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في سنة 1976، وإقفال الحدود وطُرد خمسة وأربعين ألف من المغاربة المقيمين في الجزائر. ولم تعد العلاقات الديبلوماسية إلا عام 1988 بعد وساطة الأمم المتحدة.
احتمالات الحرب وحظوظ التهدئة
ظلت قضية الصحراء الغربية عالقة، ولم تنجح المحاولات السياسية والدبلوماسية، ولا العسكرية في حل واقعي تقبل به الجزائر وجبهة البوليساريو من جهة، والمغرب من جهة مقابلة، حيث يتمسك المغرب بالأقاليم الصحراوية “كجزء لا يتجزأ من أراضيه”، وتستمر الجزائر في التعامل مع القضية باعتبارها مسألة “تصفية استعمار” مطروحة من سنوات على اللجنة الرابعة في الأمم المتحدة. وأقامت الجزائر في واحة “تندوف” في الغرب الجنوبي مخيمات اللجوء للصحراويين، وأشرف ضباط جزائريون على تدريب ميليشيات عسكرية خاضت معارك ضد المغرب، وبنت في “تندوف” مخيمات للاجئين من العائلات الصحراوية. ثم دفعت قيادة “البوليساريو” المقيمة في فندق “جورج الخامس” في الجزائر العاصمة، إلى إعلان قيام “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” في 27 شباط/فبراير 1976. وكان من الطبيعي أن تكون الجزائر أول دولة تعترف بهذه الجمهورية الوليدة، التي استقطبت لها دعم دول أخرى من إفريقيا وأميركا اللاتينية، على رأسها كوبا وجنوب إفريقيا. وعلى الصعيد العربي، اعترفت بها جمهورية اليمن الديمقراطية التي اختفت باندماجها سنة 1990 في دولة اليمن، والجمهورية الإسلامية الموريتانية سنة 1984، فيما رفض العقيد الليبي معمر القدافي الاعتراف بالجمهورية الصحراوية برغم كل ما قدمه من دعم عسكري ومالي للبوليساريو. وفي سنة 1984 تم تحييد القدافي من النزاع الصحراوي بانضمامه إلى اتفاقية وجدة مع المغرب بتأسيس “الاتحاد العربي الإفريقي”.
أما في الأعوام الأخيرة فقد تراجعت دول عديدة عن اعترافها بجمهورية البوليساريو.
وحتى الآن، فتحت نحو 16 دولة إفريقية، إلى جانب الإمارات قنصليات في الصحراء الغربية، وتم الإعلان عن خطط لفتح قنصليات أخرى جديدة لكل من الأردن والبحرين وهايتي.
نقاط دبلوماسية متتالية راكم تسجيلها المغرب في الأعوام الأخيرة لصالحه، بعودته إلى مقعده في الاتحاد الإفريقي، وتقوية نفوذه الاقتصادي والاستثماري في إفريقيا، ومحاولاته جمع الفرقاء الليبيين على طاولات الحوار في الصخيرات وطنجة، كلها أحداث لم تنظر إليها الجزائر بعين الرضا، إذ تعتبر نفسها الأولى بالملف الليبي لأن لها حدود مشتركة مع ليبيا، وأن إفريقيا كانت تاريخيا مجالها الأرحب.
لكن الاعتراف الأميركي الأخير بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، جاء ليربك كل التحليلات المتضاربة ويعيد الحسابات إلى احتمالات جديدة، ليست الحرب من خياراتها القريبة، خصوصا أمام الإنهاك الاقتصادي للجزائر ومعاناتها من حراك شعبي طويل ومستمر.. إلا إذا كان هناك من يريد للمغرب العربي أن يكون صورة طبق الأصل عن المشرق العربي الغارق في بحر من الحروب والقلاقل.