ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

عن حيرة التعامل مع الفيدرالية

إيلي عبدو – صحافي سوري

مشكلة الطرح الفيدرالي إذا، مركزية العصبية، وجعل العناصر الأخرى، من اقتصاد وأشكال حكم محلية وتعليم وقوانين، ملحقة بها. المسيحيون، أو بعضهم، يريدون الفيدرالية لأنهم مسيحيون فقط، والبقية تأتي.

إن كانت بعض النظم الفيدرالية في العالم تلحظ في تشكلها، التنوع الثقافي، مثل اللغات، فإن إسقاط ذلك على لبنان، سيترجم في الطوائف والعصبيات. بمعنى أن النظام الذي يطرح كحل، سيكون أيضاً مشكلة، كون الاعتماد على العصبية كمدخل للفيدرالية، دون أن يتوازى مع عناصر أخرى على غرار نماذج غربية، سيجعل من مزايا الفدرالية، اقتصاد حر ومصالح ونشر السلطة وزيادة مشاركة المواطنين فيها، عناصر مرهونة بما هو عصبي، أي تعمل بآليات تكرّس العصبية، وتفتحها على إمكانية تسلطية داخل كل كانتون.

ولأن الطرح يأتي من الجانب المسيحي، فإن المسيحيين في لبنان، كانوا طوال عهود يقدّمون نموذجاً ناجحاً نسبياً للحكم انطلاقاً من تحديات تتعلق بالآخر، وفي حال خروج هذا الآخر من مجالهم السياسي، سيختفي التحدّي، وسيصبحون، على الأرجح، حيال نموذج يأكل نفسه. صحيح أن نماذج الحرب الأهلية وجدت في ظروف استثنائية، لكن من الممكن، استخدام بعض نتائجها للتدليل على النموذج المسيحي الذي يأكل نفسه. في تركيبتهم الحالية، العصبية عامل مؤثر في التجمعات المسيحية، في الانتخابات مثلاِ يظهر هذا العامل، بشكل واضح، إذ تتلاحم العائلات والقرى والمناطق، لاختيار “ممثلي الشعب”، ما يعني أن لا ضمانات لنجاح النموذج المسيحي حال تطبيق الفيدرالية، على العكس، حسب ما يمكن تحليله استناداً لتراكيب اجتماعية وتجارب سابقة.

المتحمسون من المسيحيين للفدرالية، يغفلون أنهم، يستثمرون بسرديةٍ، سواهم يستثمر بها أيضاً، وأن لا نتيجة قطعية لتلك السردية، طالما أن المصالح السياسية للأحزاب تستطيع التحكم والتأثير وكسب الناس عبر شبكات الزبائنية.

 

 مشكلة الطرح الفيدرالي إذا، مركزية العصبية، وجعل العناصر الأخرى، من اقتصاد وأشكال حكم محلية وتعليم وقوانين، ملحقة بها. المسيحيون، أو بعضهم، يريدون الفيدرالية لأنهم مسيحيون فقط، والبقية تأتي. هذا يتعلق بطبيعة الحال، بتركيبة المجتمع اللبناني، القائمة على الطوائف، ما يربط أي طرح فيدرالي، بالطوائف.

 لكن، على عكس دلالتها في الوعي العام، هدف الفيدرالية توحيد ما هو مقسّم، على أسس تراعي التنوع والمصالح وتوزيع الثروة والمشاركة في الحكم، أي خلق مواطنين وأفراد لهم حقوق، ضمن نظام سياسي السلطة فيه غير مركزية. الفيدرالية ليست ضد المواطنة، بل قد تعززها، وتجعلها أقوى، إلا في حال كان المعيار عصبي، على غرار الطرح اللبناني، حينها، سنكون، على الأغلب، حيال رعايا، يميزهم انتماؤهم الطائفي لا غير.

الإشكال هنا ليس في منح الجماعات حق التمثيل السياسي، مع مراعاة حقوق الأفراد، هذا ممكن ومطلوب، حال وجد دستوريون مرنون، أصل الإشكال في تطبيق قالب حديث، أي الفيدرالية، على مجتمع تقليدي عصبي، هذا سينتج تناقضا على غرار تناقضات كثيرة حصلت في مجتمعاتنا مع تكرار تجارب مماثلة.

والمفارقة، أن العصبية التي تحوّل دون تطبيق الفيدرالية، أو تطبيقها بحيث تنتقل الصراعات من خارج الجماعة إلى داخلها، هي ذاتها، حجة أصحاب الطرح الفيدرالي. ثمة مزاج مسيحي، يرى أن مشاكل البلد، سببها علاقات الطوائف الأخرى بمشاريع أوسع من لبنان، السنّة بالعروبة والوحدة وأخيراً الربيع العربي، والشيعة بالممانعة والتوسع الإيراني، وفعلياً، هذ الطرح، يتبعه، سردية مدعمة بالوقائع تمتد من أحداث 1958، فالناصرية والوجود الفلسطيني مروراً بهيمنة النظام السوري، وصولاً لتحكم “حزب الله” وما يحصل حالياً من انهيارات متتالية. بمعزل عن نقاش السردية تلك وتحديد صوابها من عدمه، لكنها نافذة داخل الوعي المسيحي ومؤثرة جداً، غير أن التأثير، متفاوت، ومجزأ، ربطا بالحوامل السياسية، فـ”التيار الوطني الحر”، المتحالف مع “حزب الله”، يستثمر في سردية المسيحيين الكلاسيكية بما يناسب أجندته، وكذلك “القوات اللبنانية” وسواها من الأحزاب المسيحية. أي أن السردية شيء، وتسيسها شيء آخر. المتحمسون من المسيحيين للفدرالية، يغفلون أنهم، يستثمرون بسرديةٍ، سواهم يستثمر بها أيضاً، وأن لا نتيجة قطعية لتلك السردية، طالما أن المصالح السياسية للأحزاب تستطيع التحكم والتأثير وكسب الناس عبر شبكات الزبائنية.

اللافت، أن من يريد، بعض المسيحيين في لبنان، الانفكاك عنهم أي السنّة والشيعة، يتحدثون كذلك عن طروحات فيدرالية في العراق. إذ إن، جزء من السنّة في صلاح الدين، يجدون تشكيل إقليم سني خاص بهم، حلا جيدا، لوقف انتهاكات المليشيات الشيعية، التي استحكمت بهم عقب إطلاق يدها، بعد إنهاء تنظيم “الدولة الإسلامية”، وشيعة في البصرة، يكررون من وقت لآخر، كلاماً عن إقليم خاص بهم، يجعلهم أكثر استفادة من الثروات الموجودة في محافظتهم، بدل أن تهدر في جيوب الحكومة المركزية التي هي شيعية، بطبيعة الحال.

أن يتحدث سنّة عن الفيدرالية فهذا، خرق في وعيهم، إذ طالما نظروا لأنفسهم كأمة، وأن يطالب شيعة بالمطلب ذاته، فهذا أيضاً خرق لأنه يأتي لهدف اقتصادي، وللتخلص من سطوة حكومة شيعية يفترض أنها تمثلهم، لكن الخرق هنا، لا ينتقل لتطوير مفهوم للفيدرالية، يجعل مراعاة التنوع أو توزيع الثروة، من دوافع الفيدرالية، وليس الدافع الرئيسي، والتنوع هنا من الأفضل أن يحيل إلى هوية ثقافية وليس إلى عصبية مغلقة، وهذا غير متاح، في منطقتنا حالياً، ما يجعل طرح الفيدرالية، خلاصا ومشكلة في الوقت نفسه، حيث الجماعات تتصارع مع بعضها بحروب سياسية باردة أحيانا أو بالسلاح أحياناً أخرى، أو تفترق، على أساس عصبي، ما يجعلنا حيال حيرة نماذج هشة مفتوحة على التسلط والحروب الداخلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى