لماذا ينأى نصرالله بنفسه عن ترسيم الحدود البحرية؟
مهدي عقيل
كان لافتاً للإنتباه في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في “يوم القدس العالمي” أن تنأى المقاومة بنفسها عن ملف ترسيم الحدود البحرية مع “إسرائيل”، تاركةً للدولة اللبنانية أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية في الحفاظ على حقوق لبنان في الأرض والمياه والغاز والنفط. لقد طرح الموقف المستجد للأمين العام لحزب الله الكثير من علامات الإستفهام، حول توقيته ومضمونه وبالتالي أية دولة لبنانية يتوجه إليها، خصوصاً أن من ذكرهم من رؤساء ووزراء و”جهات معنية”، إنما يغني كل واحد منهم على ليلاه، من دون وجود ضابط إيقاع، إلى درجة أن الجيش اللبناني، بدا وكأنه بات معزولاً، لا أحد يسانده في مقاربته الحدودية التي وضعها على طاولة المفاوضات في الناقورة، قبل أن يبادر الأميركيون مجدداً إلى تعليقها إلى أجل غير محدد. حاذر السيد نصرالله أن يخوض في الأسباب التي تمنع حزب الله من تحديد موقفه، معتبراً أن قاعدة بقاء الحزب بمنأى عن هذا الملف فيها مصلحة للبنان والمقاومة. ليس خافياً أن المقاومة لا تدخل في مسألة ترسيم حدود برية أو بحرية مع الاحتلال ليس لأنها فقط مسؤولية الدولة، وبالتالي الإلتزام بما تحدده الدولة في موضوع الترسيم، بل لأن الأمر يتصل بقاعدة شرعية ودينية. الإعتراف بأصل الحدود هو إعتراف بأصل الوجود (بالعدو). لذلك، لا يريد حزب الله أن يضع نفسه في هذا الموقع. زدْ على ذلك أن حزب الله يملك مقاربة مختلفة. لا يمكن أن يخرج السيد نصرالله على جمهوره ويتبنى مثلاً الخط 29 الذي حدّده الجيش اللبناني، ومن ثم يعود للجمهور نفسه، بعد إنتهاء المفاوضات للقول إننا تنازلنا عن 1400 كلم2 لمصلحة الـ 860 كلم2! هذه المعادلة ليست سهلة عند حزب الله أو جمهوره، لذلك، كان الحزب متحفظاً في الأصل على فكرة توقيع مرسوم الحدود البحرية وإرساله إلى الأمم المتحدة، وذلك مخافة إتهامه بأنه يسعى إلى إختراع مزارع شبعا بحرية. فالمقاومة، وفق قواعد عملها، إذا تبنت خطاً حدودياً محدداً (برياً أم بحرياً)، لا تتنازل عنه أبداً. لذلك قرر حزب الله أن يعتصم بالصمت طوال فترة الخوض في موضوع تعديل المرسوم 6433/2011 الخاص بالحدود البحرية مع فلسطين المحتلة؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه القاعدة ما زالت صالحة في ظل سلطة سياسية لا تتورع عن التفريط او التنازل عن ثروة لبنان النفطية؟ وهل يمكن لحزب الله استخدام السلاح في الدفاع عن هذه الثروة دون مسوغ قانوني يثبت أحقية أو ملكية لبنان لهذه الثروة؟ وهل أن العقوبات الأميركية نجحت في تعطيل مفعول سلاح حزب الله؟ لقد تنصل الجميع مؤخراً من ملف ترسيم الحدود البحرية وتعديل المرسوم 6433 وشهدنا تقاذف كرة المسؤولية، بخلاف السنوات العشر الماضية التي تولى فيها رئيس مجلس النواب هذا الملف، برغم مخالفته الدستور (عن قناعة)، كون صلاحية التفاوض وعقد المعاهدات الدولية منوطة برئيس الجمهورية دون غيره طبقاً للمادة 52 من الدستور، وطالما حذر رئيس المجلس من حساسية هذا الموضوع واستراتيجيته، والذي لا يُسمَح فيه بارتكاب أي دعسة ناقصة أو التفريط بكوب ماء أياً كانت الجهة التي تُفاوض. لكن المطالبة الملحة من رئاسة الجمهورية، والضغط الأميركي لسحب هذا الملف من رئيس المجلس الذي انتهى بإدراج المعاون السياسي للأخير النائب علي حسن خليل على لائحة العقوبات الأميركية، أجبر بري على التنازل عن هذا الملف لصالح رئيس الجمهورية بعد توقيع اتفاق إطار لا يلتزم بخط حدودي معين. تجاهل السيد نصرالله، في خطاب “يوم القدس”، أية إشارة إلى الوفد المفاوض، مثلما تجاهل الجيش اللبناني، ما يعني أننا أمام مأزق كبير، يستوجب من قيادة الجيش أن تعيد النظر في مقاربتها لملف التفاوض، خصوصاً وأن مسؤوليتها محصورة بالشق التقني التنفيذي، بينما القرار السياسي هو من مسؤولية السلطة السياسية ومنذ أصبح ملف الترسيم بعهدة الرئاسة الأولى وبدء المفاوضات غير المباشرة بواسطة وفد عسكري وتقني لبناني، طفت على السطح مسألة الخلاف على نقاط الترسيم، وضرورة تعديل المرسوم لناحية اعتماد النقطة 29 بدلاً من النقطة 23، بحيث تصبح المساحة المتنازع عليها مع إسرائيل 2290 كلم2 بدلاً من 860 كلم2، وسط إصرار قيادة الجيش على ذلك لتدعيم موقف الوفد المفاوض. وعليه، راحت قوى السلطة تتقاذف ملف التعديل في ما بينها، وكل جهة تتهم الجهة الأخرى بعرقلة إجراء التعديل وإطلاق مواقف وطنية فارغة، وحين دقت ساعة الحقيقة، مهَرَ وزير الأشغال اللبناني توقيعه “الملغوم” بوجوب موافقة مجلس الوزراء، ما سمح لرئيسي الجمهورية والحكومة أن يمتنعا عن التوقيع قبل موافقة مجلس الوزراء. لقد أصبح رئيس مجلس النواب خارج مسؤولية التفاوض وهذا هو حال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب.. وبالتالي من هي “الجهات المعنية” التي يراهن أو يعوّل عليها الأمين العام لحزب الله. هناك ملف بعهدة رئيس الجمهورية وهناك جيش يفاوض. في أعقاب جولة التفاوض الأولى، في خريف العام الماضي، خاطب نصرالله الوفد المفاوض أن يتصرف من موقع القوة لا من موقع الضعف وأن إسرائيل إذا أرادت منعنا من إستخراج نفطنا سنمنعها أيضاً من إستخراج نفطها. إقرأ على موقع 180 رؤية بن سلمان.. على حافة تقلبات تهدّد العقد الإجتماعي السعودي هذه المرة، تجاهل السيد نصرالله، في خطاب “يوم القدس”، أية إشارة إلى الوفد المفاوض، مثلما تجاهل الجيش اللبناني، ما يعني أننا أمام مأزق كبير، يستوجب من قيادة الجيش أن تعيد النظر في مقاربتها لملف التفاوض، خصوصاً وأن مسؤوليتها محصورة بالشق التقني التنفيذي، بينما القرار السياسي هو من مسؤولية السلطة السياسية، لكن عندما تجري محاولة إلزام الوفد المفاوض بسقف تقني للتفاوض، ما هي جدوى المفاوضات بعد ذلك؟ أمام هذا المشهد السياسي المأزوم لقوى السلطة، تحت ضغط سيف العقوبات الأميركية المصلت، تضيع ثروة لبنان النفطية أمام أعين مواطنيه، ويبدو سلاح حزب الله وصواريخه الدقيقة “بلا جدوى”، إذا ما ظلّ الحزب معولاً على سلطة لا تؤتمن على شيء، فالقوى السياسية التي نهبت وأهدرت أموال الدولة وودائع المواطنين لن تتوانى عن التفريط والتنازل عن غاز لبنان في عرض البحر. وهذا ما يدعو حزب الله للتعامل بحزم مع هذا الملف الحساس، بخلاف تعاطيه مع ملف الفساد، إذ قد يجد عذراً في الثاني بذريعة حفظ حاضنة المقاومة، أما في الملف الأول.. فلا أعذار ولا من يحزنون. وبالتالي، على حزب الله أن يعي جيداً، أن من يتنازل اليوم عن مئات الكيلومترات في البحر لن يتورع عن تنازل مشابه في البر، وربما تصبح مزارع شبعا وقرية الغجر وتلال كفر شوبا أرضاً “إسرائيلية”. ساعتئذٍ لن يكون مفاجئاً أن ينبري من يطالب، وعلى رؤوس الأشهاد، بوجوب نزع السلاح لعدم الحاجة إليه طالما لا توجد أرض لبنانية محتلة.