باسيل المتراجع.. يشدّ جعجع معه: إلى الحرب ولغتها
بلغت المواجهة بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر الذروة، فأطاحت بما تبقّى من مصالحة وصفها الطرفان يوماً بأنّها “تاريخية”. وها هما يعودان إلى نقطة الصفر أو ما تحت الصفر.
لكن تظهر المفارقة في أن التيّار الوطني الحرّ مع رئيسه جبران باسيل قد استنفدا قواهما في السنوات التي أمضياها في السلطة حتّى خوضهما معارك الرمق الأخير في الأشهر الماضية. فيما القوات اللبنانية مع رئيسها سمير جعجع خَطَوَا خطى ثابتة متجاوزَيْن ألغام السياسة بتنظيمهما ومواقفهما المتصالحة مع قاعدتهما. فتقدّمت القوات في الوسط المسيحي على سواها مستفيدة من مصالحتها مع التيار الوطني الحرّ.
يوم زار عون جعجع في معراب كان يوم غسل خلاله جعجع ذاكرة المسيحيين من ناحيته. فهدم جداراً معنوياً عملاقاً كانت المعارك بين المسيحيّين قد بنته وجعلته ناطحاً للسحاب. قدّم عون لجعجع ما عجز الأخير عن تحقيقه طوال ثلاثين سنة بما فيها فترة سجنه وما بعدها.
نجح جعجع في أن “يتطهّر ويلطّخ عون”. هكذا عبّر الراحل جان عبيد عن خلاصات ما سمّي بـ”المصالحة المسيحية”. استمرّ جعجع بحصد النجاحات في معارك الرأي العام المسيحي، إلى أن سقط من أعلى السلّم الذي بلغه. سقط في حفرة حفرها له جبران باسيل.
تظهر المفارقة في أن التيّار الوطني الحرّ مع رئيسه جبران باسيل قد استنفدا قواهما في السنوات التي أمضياها في السلطة حتّى خوضهما معارك الرمق الأخير في الأشهر الماضية
سقط جعجع في حرب بيانات مؤخّراً عادت تستخدم مصطلحات المعارك المسيحية الغابرة. حرب أراد باسيل منها ضرب صورة القوات الحديثة وإعادة أبلسة جعجع كما سبق أن حصل منذ أيّام حربه ضدّ الرئيس ميشال عون.
يقول قيادي عوني بارز من معارضي باسيل، إنّ الأخير “نجح في إعادة القوّات إلى نقطة الصفر، وجرّها إلى مواجهة دخلتها من دون أن تدرك مخاطرها، فخسرت ما حاولت أن تستجمعه على حساب التيار وحساب سياسات باسيل بالنقاط”. ويسأل القيادي: “ماذا أمام جبران كي يخسر؟ لا شيء، فهو وصل إلى نقطة اللاعودة. لذلك يسعى إلى إشعال الجبهة مع القوات علّه يصيبها. وفي إصابتها ارتفاعٌ لرصيده وإبعادٌ لشبح الانقلاب الآتي من الداخل ضدّه. نجاح باسيل هذه المرّة في إصابتها ينذر بمعارك جديدة شبيهة قد تملأ الساحة المسيحية حتّى موعد الانتخابات النيابية المقبلة”.
في المقابل، يرفض صاحب نظرية “الثنائية المسيحية” التعليق على مشهد حرب البيانات. فيكتفي الوزير السابق ملحم الرياشي، أحد مهندسَيْ ورقة إعلان النوايا، بالقول لـ”أساس” إنّ لديه تعليقاً “سيتركه لوقت لاحق”. فيما يقول شريكه في هندسة الورقة نائب تكتّل لبنان القويّ إبراهيم كنعان إنّ “المصالحة شقّان. شقّ استراتيجي متوسطُ الأمد وطويلُهُ، تحقّق فيه الكثير من التوازن في التمثيل الإسلامي المسيحي المشكو من اختلاله منذ اتفاق الطائف، ولا يزال التنسيق في هذا الشأن قائماً، وخصوصاً في المجلس النيابي. وشقّ آخر آنيٌّ يتمثل في الملفات اليومية والتنافس أو الصراع عليها، ومنها الاستحقاقات الانتخابية التي، للأسف، عادت لغة التخاطب حولها تتخطّى الحدود المقبولة بحسب التفاهمات التي كنا قد توصّلنا إليها بين الرابية ومعراب”. ويختم كنعان داعياً إلى “عدم تغليب الظروف والصراعات على الاستراتيجيات، وضبط المواقف والخلافات تحت سقف مقبول، وهذا ممكن إذا توافرت النيّات”.
شارل جبّور: مفلسو الحاضر يلجأون إلى التاريخ
من جهته، يدرك جيداً رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوّات شارل جبّور أنّ “أحد أهمّ أهداف التيار الوطني الحر تأجيج المواجهة بين المسيحيين لشدّ عصب جمهور التيار من خلال العودة إلى الماضي، لأنّ مقاربة الواقع خاسرة”.
يؤكّد المسؤول القوّاتي في حديثه لـ”أساس” أنّ “سياسة حزبه تقتضي عدم الردّ على محاولات التيار الوطني الحرّ جرّ القوات إلى سجالات تعيد الذاكرة الجماعية إلى زمن الحرب. إلا أنّ القوّات تحرص على الردّ استثنائياً لتأكيد أمرين. أوّلاً عرض الوقائع التاريخية كما هي حرصاً على الجيل الشاب الجديد الذي يتابع المشهد السياسي. وثانياً التأكيد أنّ المشروع المسيحي المرتبط بالدور المسيحي في لبنان يجب أن يكون مشروع بناء الدولة”.
يرفض صاحب نظرية “الثنائية المسيحية” التعليق على مشهد حرب البيانات. فيكتفي الوزير السابق ملحم الرياشي، أحد مهندسَيْ ورقة إعلان النوايا، بالقول لـ”أساس” إنّ لديه تعليقاً “سيتركه لوقت لاحق”
ماذا تقول الكنسية؟
في وقت تتقاتل الأحزاب المسيحية بعدما سقطت كل محاولات التقائها على مسوّدة عمل استعداداً للمرحلة الانتقالية التي يمرّ بها لبنان، يقول مصدر كنسيّ لـ”أساس” إنّ أخطر ما في هذه المرحلة هو عودة الصراع المسيحي إلى الطَفْو من جديد، منبئاً بزمن النهايات لشعبٍ يغرق ويتلهّى بالشتائم وهو يموت.
نعود إلى جدليّة النائب نهاد المشنوق التاريخيّة: أيّ طعمٍ للبنان من دون المسيحيّين؟ ولأنّ الجدليّة هذه حاضرة في كواليس بكركي، تستنفر البطريركية المارونية في حرب استباقية تقودها على كل طامح إلى تغيير النظام اللبناني على حساب تمثيل المسيحيين ووجودهم في الصيغة اللبنانية. فتجتهد في المواقف واللقاءات والدعوات إلى مؤتمرات للمحافظة على الكيان. ويقول زوّارها إنّ المسيحيّين، بمن فيهم أولئك الموالون لعناوين بكركي، يتلهّون بقشور العمل السياسي مستخدمين ذاكرة الحرب لِما هو أسوأ منها. فيما لا يسع الصرح الماروني في بكركي سوى مخاطبتهم متسعيناً بالآية الشهيرة من إنجيل “لوقا”: “مرتا مرتا أنت تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”.