موسكو ترسم إطاراً استباقيّاً للدبلوماسيّة في المنطقة
ناصر قنديل-البناء
– استفادت موسكو خلال عقدين غابت فيهما واشنطن عن الساحة الدبلوماسيّة، لتبلور مدرسة نشطة في الدبلوماسيّة، تجمع بين القراءة الواقعية لأدوار الشركاء الطبيعيين في الملفات، وأحجامهم وقدراتهم على التأثير، سواء كانوا حلفاء أو أصدقاء أو خصوماً، وتحسن استخدام موازين القوى وتفعيل حضورها بصورة موضعيّة للتأثير على المواقف والاصطفافات، وترسم دبلوماسيتها الناعمة بين سطور هذه العناصر، بينما كانت واشنطن تتنقل بين سياسات تعتمد دائماً على الاستخدام المفرط لعناصر قوتها، العسكرية بداية، في حروب أشعلت المنطقة ولم تصل الى النتائج المرجوة، ثم المخابراتية في مرحلة وسطى، عبر حروب الوكالة التي خاضتها جماعات التطرف الإرهابية، ثم قوتها المالية في منهج العقوبات القصوى الذي رسم معامل مرحلة الرئيس دونالد ترامب، وترفع بدل الجسور الجدران ليس مع الخصوم فقط، بل مع الحلفاء والأصدقاء أيضاً.
– بعد وصول الرئيس جو بايدن الى البيت الأبيض، رصدت موسكو جهوداً وعقولاً لفهم رؤيته وتخيل وتوقع اتجاهاتها، وخلص خبراؤها الى يقين استمرار العداء لموسكو في خلفية السياسة الخارجية الجديدة لواشنطن، لكنهم خلصوا إلى أن هذا العداء قد يفتح الباب لمبادرة واشنطن للتخفف من أعباء ملفات ثقيلة رفضت في الماضي وضعها على سكة التسويات والتفاهمات، تشبثاً برؤى يصعب تحقيقها، ولذلك توجهت موسكو لرسم سياساتها بالمفرق في التعامل مع السياسات الأميركية، حيث توجد فرص التلاقي تتحرك موسكو لصناعة مشاريع تفاهمات، وحيث تبدو العدائية تتخذ موسكو الجهوزية اللازمة لحماية مصالحها والدفاع عن دورها ومكانتها، خصوصاً عندما يتصل الأمر بتدخل أميركي وأوروبي في الشؤون الداخلية لروسيا، سواء عبر تنشيط وتفعيل وتمويل المعارضة، أو خوض حرب باردة تحت عنوان حقوق الإنسان وحماية الديمقراطية.
– في المنطقة حيث تحضر روسيا مباشرة، وحيث تجد واشنطن سياساتها وسط المشكلات، لا تسعى موسكو لاستثمار المأزق الأميركي لعرقلة طرق الخروج الأميركية أملاً بتأخير واشنطن عن خطط المواجهة مع روسيا، لكن موسكو لا تجلس وهي تنتظر تبلور سياسات أميركيّة واضحة ومتكاملة للتعامل مع الملفات الساخنة، لتقرر كيفية التعامل معها، بل على العكس تنشط موسكو لرسم تصوّرات تتيح مخارج تأخذ بعين الاعتبار الحد الممكن لحفظ المصالح الأميركية، لكن على قاعدة حفظ المصالح الروسية، مراعاة أحجام وأوزان وأدوار اللاعبين الآخرين، وفقاً لما رست عليه المواجهات الدائرة في المنطقة خلال عقدين، وهنا تضع موسكو أمامها معادلة المنطقة بأحجام واقعية لقواها، ومصالح تتناسب مع الالتزام الروسيّ بالبقاء تحت سقف القانون الدولي.
– يعتقد الخبراء الروس أن واشنطن تحاول رسم ما تسمّيه بعلب الحلول للأزمات الساخنة، من دون السعي للتفاهم مع موسكو كشريك، ولذلك تسعى موسكو لتسويق تصوّرات استباقية، تبدأ من مقاربة الملف الأكثر تعقيداً وضغطاً على واشنطن، الذي يمثله الاتفاق النووي مع إيران، من خلال الدعوة لسلم ترسمه روسيا والصين وأوروبا، ويتم تسويقه وضمانة الالتزام به من الفريقين الأميركي والإيراني، يتم خلاله التراجع بالتزامن والتوازي عن الخطوات التي تمثل خروجاً عن الاتفاق، فتتراجع واشنطن عن العقوبات بالتتابع، وتتراجع إيران عن خطواتها التصعيدية بالتتابع، وفي الملفات الإقليمية تتحرّك موسكو على رسم تصوّر ينطلق من معالجة الملفات وفقاً للقانون الدولي، والاتفاقات الدولية، وهنا تصنع موسكو «العلبة» التي تعرضها على الشركاء وصولاً لواشنطن، في اليمن وقف الحرب أولاً بلا شروط، ثم الانتقال الى حوار سياسي يمني بلا تدخلات، وفي سورية، انسحاب أميركي وتركي، ووقف الغارات الإسرائيلية، وتراجع واشنطن عن تبني قرار الضم الإسرائيلي للجولان المحتل، وبالمقابل تعرض السعي لتفاهم يضمن العودة إلى اتفاق فك الاشتباك في الجولان، بما فيه إخلاء المنطقة بين دمشق وخط الفصل من أي تواجد عسكريّ نوعيّ، وإحياء اتفاق أضنة بين سورية وتركيا، وتشجيع الحوار لبلوغ حل سياسي يضم جميع المكوّنات السورية بما فيها المكون الكردي، وتشجيع مشاركة الجميع في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتأمين عودة سورية الى الجامعة العربية، وفتح الباب لعودة النازحين وإعادة الإعمار، وإلغاء العقوبات وفي مقدمتها قانون قيصر.
– تختبر موسكو تفاعل واشنطن بالواسطة عبر حلفائها، لمعرفة حدود الممكن، ودرجة الجدية الأميركية في بلوغ تسويات، وتنشط موسكو للتواصل مع جميع اللاعبين، القريبين والبعيدين، وتربط موسكو تحويل مطالباتها من الأصدقاء الى خطوات عملية بقبول الخصوم للمبادرات وخصوصاً واشنطن، وعلى نتائج ذلك ستبني موسكو خطواتها اللاحقة، وليس بعيداً عن كل ما تتحرك نحوه موسكو رؤيتها لخارطة أنابيب الغاز في المنطقة نحو أوروبا، وحتمية ربطها بتفاهم أميركي روسي كي تحقق جدوى اقتصادية تتيح لها أن تبصر النور.