تحقيقات - ملفات
تعالوا نتذكر الظلام العثماني.. هل يعود أسوأ زمن عرفه الشرق؟
نبيل صالح
كانت الدولة الإسلامية دولة عضوضاً في أدوارها التاريخية كلِّها، ولم تكن تختلف عن دولة “داعش” كثيراً: أيام الدولة العثمانية وأيام المماليك والأيوبيين وحتى الأمويين والعباسيين وصولا إلى بداية ما سمي بالفتوحات الإسلامية، حيث كان يتم أسلمة المفتوحين بالسيف والجزية، فقلة من الناس هم من يُغَيِّرُون دينهم إلى دين الغازي عن طريق الاقتناع، كما هو الحال في يومنا هذا.. وكان الولاة يمثلون الله على الأرض ويطبقون أحكام الشريعة على الفقراء دون الأمراء، وبحسب ما تقتضيه مصالحهم، لهذا توسع خط ُّالنفاق في جينوم الأمم المحكومة بسيف الشريعة كي تنجو بحياتها، إذ كان رسم السيف يرتفع على أعلام الدول الإسلامية وأعناق رعاياها، منذ أول علم رفعوه في بلاد الشام، وصولاً إلى أعلام الوهابية والإخوان المسلمين، الجماعتان المختلفتان اليوم على تبعيتهما بين السعودية وتركيا، والمتفقتان على فقه “ابن تيمية” و”سيد قطب” التكفيري.. وليست مصادفةً، أن تصدر مجلة “دابق” باسم تنظيم داعش عام 2014 استنهاضاً لذاكرة معركة “مرج دابق” التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك، ليلتقوا بذلك مع التنظيمات الإخونجية المسلحة التي تحمل أسماء سلاطين بني عثمان، مؤكدين حربهم المذهبية المقدسة، وكأن آلام ودماء ومقدرات المسلمين طوال أربعة قرون قد ذهبت هدراً، وليعيد التاريخ دورة الدم من جديد دون أن نربح الموعظة !؟
استمرت الدول الإسلامية بافتراس بعضها بفتاوى الفقهاء، وكان مسلمون يقتلون مسلمين حباً بالله.. يقول “ابن طولون”: “بعد دخول السلطان سليم حلب، كان أولَ عمله نهبُ قلعة حلب وأموالِ السكان.. ويقول “ابن إياس”: سجل التاريخ استباحة حلب ومعرة النعمان ثلاثة أيام في حملة سقط خلالها 40 ألفاً رغم استسلام المدينة، كما سقط إبان استباحة دمشق عام 1516 قرابة عشرة آلاف شخص في ثلاثة أيام، فنهبوا البيوت والضياع وأخذوا من دمشق “حريماً” كثيراً وأولاداً وعبيداً ولم يبقوا لأحد فيها فرساً ولا بغلاً، كما استبيح ريفُ إدلب وحماة وحمص والحسكة، وصنعوا تلالاً من جثث السوريين، وسطوا على قافلة الحج، كما ألغوا ملكية الأراضي الزراعية وأعلنوا ضمها إلى ملكية السلطان يؤجِّرُها لمن يشاء مقابلَ “الميري” وهي 10 % من ناتج الأرض؛ وفرضوا ضريبة على كل رقبة من بشر أو دواب، وكانت أول مرة تفرض ضريبة على المسلمين.. وأفرغوا دمشقَ والقاهرة من الحرفيين والصناعيين وكبار التجار والقضاة والأعيان ـ كما يروي “ابن زنبل” ـ ونقلوهم إلى القسطنطينية.. وانخفضت الكثافة السكانية بشدة، وتراجعت مساحة الأراضي المزروعة، كما قل عدد سكان القرى بسبب التدهور في النظام الإداري والضريبي وانخفاض قيمة العملة، وبقيت التجارة على ما كانت عليه في العصر المملوكي تفتقر إلى وسائل النقل والمواصلات والأمان، وأُهمِلَت الموانئ.. كما قلَّصَ الفقرُ من المبادلات التجارية، فحافظَ المجتمعُ على ركوده وعاش ضعيف الحيوية لا يبتغي من الحياة سوى السلامة.. فقد رسَّخَ العثماني ثقافة الظلم و الاستبداد التراتبي في المجتمعات العربية، وأنتج نوعاً من الإسلام العثماني الشكلي، في النقاب والحرملك والسلملك إلى درجة وضع مطرقتين على الباب الخارجي، مطرقة صغيرة لاستعمال النساء وكبيرة للرجال، وثقافة الطاعة، وتقبيل اليد، والرشوة والخوّة، والخازوق والمشنقة، والخرزة الزرقاء، والنضوة فوق الباب، وتمييز المشايخ عن العامة ومحاباتهم بإعفائهم من الضرائب.. وبالمحصلة لم يكن العثمانيون أصحابَ حضارة كي يُحَسِّنُوا من حياة الأمم التي دانت لهم قبل أن تخرج من تحت نيرهم مدمرة تماماً، فلم تتمكن من مواكبة العصر واللحاق بالحضارة بسبب التركة العثمانية الثقيلة في حياة شعوب آسيا وأفريقيا والبلقان، التي مازالت تعاني اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً، رغم مرور قرن على تحررها، ذلك أن الفيروس العثماني مازال معششاً فيها ويؤخرُ تعافيه.
قبل سقوط الدولة العثمانية كان قناصل أوروبا وجواسيسها في البلدان العربية يقدمون تقاريرهم عن بنية مجتمعاتنا تمهيداً لوراثتها بعد موت “الرجل المريض” حسب تسميتهم للدولة العثمانية، “وبالطبع فإن التقارير الفرنسية الرسمية ومراسلات القناصل كانت تركز على التوجهات السياسية للمسيحيين والمسلمين في بلاد الشام: اختلاف التوجهات، تقارُبُها، المواقف المحلية من تركيا، ومن الدول الأوروبية ومشروعاتها. وتتأرجح هذه التقارير بين المراهنة على الوجود المسيحي بوصفه عنصر كسب لفرنسا في سورية، والمراهنة على عداء المسلمين العرب للأتراك، وضرورة عدم التخلي عنهم كي لا يتوجهوا نحو بريطانيا لطلب المساعدة” بحسب ما يذكر وجيه كوثراني في كتابه “بلاد الشام مطلع القرن العشرين”. وقد جندت فرنسا مفكريها و اقتصادييها وسياسييها لوضع خطة إدارة سورية بعد احتلالها، وبالتأكيد لم يكن سهلاً عليهم صناعة دولة بديلة كون مفهوم الدولة بشكلها الأوروبي وعناصرها المؤسسة: الأرض والأمة والهيئة السياسية، لم يكن موجوداً في البلدان العثمانية، إذ كانت شعوب بلاد الشام تتألف من خليط هائل من القوميات والأديان والمذاهب التي تشكلت عبر مئات القرون من بقايا غزاة الأمم الذين قذفوا شيفراتهم الوراثية في الرحم السوري، فتشكلت طبقات العصبيات المتراكمة كما لو أنها بصلة تاريخية، أي محاولة لإزالة قشرة منها كانت تتسبب بالكثير من الدموع لطباخي السياسة، لهذا لم يوفَّقْ الفرنسيون والبريطانيون في سياسة تقسيم البلاد لصناعة ما يشبه الأوطان: سورية، فلسطين، لبنان، الأردن، العراق … إذ لم يكن مفهوم الوطن والمواطنة قد نبت بعد في رؤوس السوريين إلى حين تشكيل الجمهورية الأولى تحت سيطرة الانتداب الذي أسس الجيش السوري، باكورة المؤسسات الوطنية، وكان لابد من عقيدة تجمع جنود هذا الجيش غير عقيدة الدين التي كان ينتهجها العثمانيون، فاعتمدوا عقيدة الجيش الفرنسي نفسها كيما يكون جيشاً رديفاً لهم، وقد سهل ذلك على الأحزاب العلمانية التي تشكلت بعد الاستقلال لأن تتغلغل بين عناصر الجيش وضباطه وتنشر أفكارها، وأن تستثمر ذلك في دعم نشاطها السياسي الذي كان من نتيجته عددٌ كبيرٌ من الانقلابات العسكرية.. فقد نهل المثقفون السوريون آباء الاستقلال من الأفكار الأوروبية لتشكيل الهوية الوطنية، غير أن تقسيمات سايكس بيكو كانت ضيقة على أحلامهم في شكل الدولة وهويتها، واضطروا إلى تشكيل دولة ذات طابع توليفي تم فيه انتقاء ما يناسب أيديولوجياتهم من حكايات تاريخية مبتسرة ومعزولة عن سياقها الطبيعي !؟ غير أن الخطأ التاريخي الأكبر في المنطقة بدأ مع دعاة الصهيونية ومؤسسي الكيان الإسرائيلي، عندما ماهوا بين الدين والقومية لكي يزرعوا بدورهم كياناً توليفياً هجيناً، وهو خطأ كرره بعثيو العراق وسورية في نظريتهم حول تلازم العروبة والإسلام، وكذلك حصل مع قادة الثورة الإيرانية، ومجددا مع دعاة النيوعثمانية التي تريد بعث الإمبراطورية الميتة بواسطة بقاياها القومية خارج حدود الجمهورية الأتاتوركية.. فقد تم إيقاظ الصراع القومي في المنطقة بلبوس ديني، وبات الصراع والتنافس بين الجميع صراعاً سلفياً بإطلاق الأمر الذي جر مجتمعات الشرق الأوسط نحو الخلف، بينما الغرب الإمبريالي يستثمر في هذا الصراع اللانهائي..
لم تنجح الأحزاب السورية والعربية العلمانية في تأسيس دول متماسكة وقوية لأنها طوعت المجتمع لفكرتها المستوردة وليس العكس، ذلك أنها كانت على عجلة من أمرها ولم تعطَ الوقت الكافي لدراسة بناها الاجتماعية وكيفية علاج أمراضها التي ورثتها خلال 400 سنة من حكم العثماني، بينما استغلت جماعة الإخونج هذا الإرث العثماني الجاهز بأمراضه لاستقطاب العامة ولم يفلحوا أيضاً.. فقد أنشأت الدول التي تحررت من العثماني مؤسساتٍ وبرلماناتٍ وتبنت أيديولوجياتٍ حديثةً ولكنها لم تتمكن من خلق علاقة ديمقراطية بينها وبين الرعية، وقد تكون الشعوب مَلُومةً في ذلك أيضاً، حيث أنها مازالت تحمل البنى الاستبدادية القديمة في العلاقات الاجتماعية.. كما تركزت المناهج التعليمية بعد الاستقلال على صب المعلومات ونقلها في قوالبها بدلاً من تعليم التفكير والاستنباط، وكذا الأمر بالنسبة للمرجعيات المذهبية التي كانت أكثر استبداداً تجاه رعاياها خوفاً عليهم من الأفكار الإصلاحية (الهدامة) التي تخرجهم عن طوعها.. وهكذا تلاقت ثقافة الإكليروس الديني مع مصالح السياسي في تطويع الناس، وبقي رجل الدين مسموعاً أكثر من رجال الفكر (المهرطقين) لدى السلطات وعامة الناس، بينما كان القمع الاجتماعي مضاعفاً تجاه المرأة التي تربي المجتمع، ولم يكن بإمكان الأسيرة أن تربي طيراً حراً.. غير أن أفكار الحداثة التي تسربت إلى رؤوس المتعلمين كانت تدفعهم للمقارنة بين حالهم وحال الآخرين في البلدان المتقدمة، فراحوا يتمردون على المؤسسات السياسية والدينية وحتى الحزبية ذات الأيديولوجية الثابتة، فازداد اعتمادُ السلطات العربية على المؤسسات الأمنية بدلا من الاستثمار في المؤسسات التربوية والعلمية، وتنامت قوة الاستبداد الذي أنتج الفساد وكلاهما ضاعفا من محاصرة الناس في أساليب عيشهم وتفكيرهم، حتى باتت الشعوب العربية مؤهلة للاشتعال؛ وبما أن المؤسسة المعارضة الوحيدة والمنظمة فعلياً على الأرض هي مؤسسة الإخونج، فقد كانت الثورات العربية مرهونة بتوجهاتهم.. الإخونج الذين بات لديهم تنظيم عالمي، وحكومة تركية ترعاهم، وقطرية تمولهم، وأقليات من أصول تركية متأهبة للتعاون معهم، ومخابرات أمريكية تدعمهم، وقد فصلنا في ذلك بالحلقة الأولى ..
منذ العام 2010 ضاعف إردوغان من نفوذ هيئة الشؤون الدينية وخصص لها ميزانية تعادل ميزانية 11 وزارة في الحكومة التركية مقابل تبني الأئمة لخطاب حزب العدالة الإخونجي، كما كان أئمة هيئة الشؤون الدينية في 38 دولة يتجسسون لصالحه، حسبما نشر موقع جريدة حرييت.. وقد عمل العديد من أئمة سورية في بداية الحرب لصالحهم من مساجد درعا مروراً بحمص وطرطوس وصولاً إلى إدلب، ثم دخل حزب “الحركة القومية” ومنظمته السرية المسماة بالذئاب الرمادية على الخط، بعد التقائها أيديولوجياً مع حزب العدالة والتنمية وتحالفهم معه في الانتخابات، إذ يعتقد مؤسس المنظمة “ألب أرسلان” بتفوق العرق التركي، ويدعو لدمج الهوية التركية والدين الإسلامي، وتوحيد الشعوب التركية في دولة واحدة تمتد من البلقان إلى آسيا الوسطى، مستلهمين بذلك تاريخ الدولة العثمانية.. وقد انتشر أعضاء المنظمة في مناطق التركمان في سورية حيث توحدت المجموعات التركمانية السورية تحت رعاية ممثلين عن حزب “الاتحاد الكبير الإسلامي التركي” و “الجبهة التركمانية العراقية” وتنظيم “الذئاب الرمادية” في 21 آذار 2011، ويمكن تتبع اسم الذئاب الرمادية على شبكة الإنترنت حيث يقودنا اسمها إلى صفحة مجلس مدينة أعزاز على الفيسبوك، وهذه تقودنا إلى صفحة مجلس مدينة مارع، ثم صفحة أخبار ريف حلب الشمالي، ثم صفحة مجلس مدينة أخترين، ثم صفحة مجلس مدينة حريتان، وهي صفحات متشابهة في عرض أخبار السلطان إردوغان، وتدمير قوات نظام الأسد، وتنظيم مظاهرات بعد صلاة الجمعة ترفض الانتخابات الرئاسية في دمشق، وتلقي الدروس الشرعية، وتعليم اللغة التركية، حيث يظهر “لوغو” الذئاب الرمادية مطبوعاً على منبر المحاضرين، بالإضافة إلى أعمال البلديات في حفر آبار أو إقامة مدارس ومشافٍ متنقلة، وتوزيع معونات، وتكريم حفظة القرآن الكريم، بهدف شراء أصوات السكان مستقبلاً في حال حصل تصويت دولي على (تابعيتهم التركية) كما حصل عند سلخ لواء إسكندرون قبل 82 عاماً.. فما تقوم به الذئاب الرمادية هو الأخطر في عملية تتريك الشمال السوري، خصوصاً أن لهم باعاً طويلاً في الصراعات الدولية، إذ شاركوا في صراع القبارصة الأتراك ضد اليونان، ودعموا قبائل الإيغور التركمانية ضد الصين، وقاتلوا في الشيشان ضد الروس، كما أسقطوا لهم طائرة حربية بريف إدلب وقتلوا قائدها، وبالمقابل فقد قتل الجيش العربي السوري العديد منهم.. كما تعمل هذه المنظمة منذ العام الماضي على تجنيد تركمان سوريين للقتال إلى جانب السراج في ليبيا بالتعاون مع السوري ماهر مصطفى قائد فرقة “المنتصر بالله” التركمانية التي شنت عمليات عسكرية على حي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب ضمن قوات “الجيش الوطني”، ويقوم مصطفى بتوريد 300 مرتزق سوري إلى ليبيا بموجب عقد مؤقت مع الاستخبارات التركية حيث تم توريد 6000 مرتزق حتى الآن براتب 2500 دولار في الشهر .. أيضا هناك فصيل تركماني سوري في مدينة الباب يحمل اسم مؤسس تنظيم الذئاب “ألب أرسلان” يقوده حسن رسلان وتعداده 800 مقاتل تركماني ينهجون نهج الذئاب الرمادية وينفون علاقتهم بهم.. وبالتالي فإن هوس إردوغان يفني تركمان العالم القديم ويفصلهم عن أوطاهم ليجندهم في مشاريع إسلاموية سلفية لاستعادة شبح الإمبراطورية من أرض الموتى !؟
في الختام فإن البداية تكون في اعترافنا أننا فشلنا في احتواء القوميات السورية، كما فشلنا في تكريس المواطنة وتوزيع العدالة خلال قرن مضى.. وأن عدم تنظيف ثقافتنا الوطنية من بقايا الاستبداد والتخلف العثماني والأفكار السلفية وتغييب المرأة، قد ساهم في وصول البلاد إلى ماهي عليه الآن، وقد يكون من الجيد البداية بخطوة ولو متأخرة تجاه المجموعات العرقية والدينية المكونة للمجتمع، لإعادة دمجها ضمن مشروع ثقافي اجتماعي سوري يشارك في وضعه نخبة هذه القوميات والمذاهب التي أعطت لسورية كل هذه النخب الوطنية على حد سواء، وتفويت أي استثمار خارجي لهم، من دون تجاذبات الأكثرية والأقلية لأن السياسة الديمقراطية تقول أن المواطن هو الأكثرية.
المصدر: نبيل صالح