عندما يتحدّث البابا عن لبنان… حافظوا على الوجود المسيحي فيه
اندريه قصاص-لبنان24
قلما يتحدّث قداسة الحبر الأعظم عن الشؤون الداخلية للبلدان التي تشبه أوضاعها ما يعيشه لبنان من أزمات. ولكن عندما يتحدّث يدرس بدقة وعمق كل كلمة يقولها، لأن كلامه ليس كأي كلام عادّي يُقال في المناسبات العادية. فهو يحرص على أن تكون كلماته منتقاة بعناية وهادفة، وأن يكون لها وقعها الطبيعي المرتجى، وألا تكون مجرد غير قابلة للصرف على أرض الواقع.
عادة، وقبل أي كلمة لقداسته تكون الدوائر الرسمية المعنية في الفاتيكان قد هيأت المناخات الضرورية من خلال إتصالاتها الدبلوماسية مع المعنيين في أي بلد ستُوجه إليه هذه الكلمات، وذلك من أجل ضمان تفعيل مضامينها وتثمير مفاعيلها، سواء عبر مبادرات معينة أو عبر خطوات مميزة من شأنها أن تحدث الفرق المطلوب.
فكل كلمة يقولها قداسة البابا تكون منتقاة بعناية ودقة متناهيتين وهادفة ومحدّدة الغايات، وهذا ما خبره اللبنانيون في تعاطي الفاتيكان مع قضاياهم، وبالتالي فإن الفاتيكان، كما يقول آباء الكنيسة، لا يضع رجله بالمعنى السياسي إلا على أرض صلبة وثابتة، ولا يُقدم على اي خطوة إن لم يكن متأكدًا من النسبة العالية من النجاح.
ففي أثناء لقائه اعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، تمنى البابا فرنسيس أن “يشهد لبنان التزامًا سياسيًا، وطنيًا ودوليًا، يساهم في تعزيز الاستقرار في بلد يواجه خطر فقدان هويته الوطنية والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية”. وشدد على “ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعددي متسامح ومتنوع، يقدم فيه الحضور المسيحي إسهامه ولا يقتصر على كونه أقلية فحسب”. وأكد أن “إضعاف المكون المسيحي في لبنان يهدد بالقضاء على التوازن الداخلي”.
مصادر كنسية توقفت عند ثلاثة مفاصل مهمة في كلام قداسته، وهي وفق الترتيب السياقي:
أولًا: “خطر فقدان لبنان هويته الوطنية والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية”، فرأت في هذا الكلام قرعًا لجرس الإنذار حول خطورة فقدان لبنان هويته الوطنية، وهو قصد بذلك أن ينبّه من خطورة تأّثر لبنان بما يجري من حوله في المنطقة، وفيه تلميح إلى حياد لبنان، وهذا ما دعا إليه البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي، قبل أن يتحدّث عن ضرورة عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان، وهما طرحان يتكاملان، من حيث الشمولية والموضوعية.
وذكرّت هذه المصادر بأن الخوف من فقدان لبنان هويته الوطنية ليس جديدًا، وهو كان يتقدّم على كل ما عداه من هواجس في كل مرّة كان لبنان يمرّ بأزمات وجودية، خصوصًا في خلال الحرب.
ثانيًا: “ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويتها الفريدة”.
في رأي المصادر الكنسية أن حفاظ لبنان على هويته الفريدة، بعد ضمان عدم فقدانها، يصب في خانة الوثيقة الإنسانية التي وقعها كل من البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب في ابو ظبي، والتي تدعو إلى التعددية المتسامحة والمتنوعة، على الأ يقتصر دور مسيحيي لبنان على سلبية الحضور كونهم أقلية، بل أن يكون حضورهم فاعلًا في محيطهم ومتفاعلًا معه من ضمن الثوابت الإيمانية القائمة على تقبّل إختلاف الآخرين. وهذا ما قصده البابا القديس يوحنا بولس الثاني عندما قال عن لبنان بأنه رسالة أكثر مما هو مجرد بلد عادي.
ثالثًا: “إضعاف المكون المسيحي في لبنان يهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي”. وفي ذلك إشارة إلى أهمية أن يكون الحضور المسيحي في لبنان فاعلًا وألا ينطلق من فرضية تهميش دورهم، أو العمل على تقليص صلاحياتهم من ضمن ما يُسمى المؤتمر التأسيسي الذي يهدف إلى إقرار المثالثة، لأن ذلك من شأنه أن يخّل بالتوازنات الداخلية القائمة على المناصفة في كل شيء بين المسيحيين والمسلمين، وذلك إنطلاقًا من الحفاظ على الوجود المسيحي في لبنان بعدما تقلص هذا الوجود في المنطقة بفعل التوترات فيها وتغليب لغة التطرف على لغة الإعتدال.
ففي كلام البابا فرنسيس ما يدعو الجميع، مسيحيين ومسلمين، إلى إعادة النظر في الطروحات التي لا يمكن أن تصبّ في خانة تعايش اللبنانيين بين بعضهم البعض بحضارة ورقي والإستفادة من هذا الغنى الذي تؤّمنه كل من الديانتين المسيحية والمسلمة لما في تعاليمهما من تعالٍ وسمو، ولما فيهما من حثّ على عيش قيم التسامح والتآخي.