محور الاعتدال في الشرق الأوسط وأميركا في العام 2021 الولايات المتحدة تغيرت بغض النظر عمن سيكون سيد البيت الأبيض
بعدما أدركنا ما هي استراتيجيات محاور القوى الراديكالية في المنطقة، من إيران إلى الإخوان وشركائهم، خلال المرحلة الانتقالية الرئاسية في الولايات المتحدة، وبعدما اتضح للمراقبين أن هذه المحاور ستعمل على تعزيز مواقعها ورفض أي تنازل حتى يتم التغيير في البيت الأبيض وبدء مفاوضات جديدة، يُطرح السؤال الأن عّما يجب وما يمكن لمحور الاعتدال أن يقوم به في تلك المرحلة الانتقالية نفسها.
محور الاعتدال يتمثل اليوم أساساً بالتحالف العربي بقيادة السعودية، ومصر والإمارات، وحركات المعارضة الوطنية والمدنية في المنطقة بما فيها إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان وغيرها. هذه الكتلة الضخمة تواجه القوتين الراديكاليتين إيران و”الإخوان المسلمين”. والسباق الآن سوف يكون بين “الراديكاليين” والمعتدلين للتأثير في السياسة الخارجية الأميركية الآتية في 2021، أياً يكن سيد البيت الأبيض.
إذا وضعنا جانباً الاحتمال الصعب، لكن غير المستحيل، أن تنقلب الأوضاع رأساً على عقب، عبر المحاكم والآليات الدستورية، ويعود الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب إلى الواجهة كزلزال سياسي، فإن الحسابات الجارية الآن في الشرق الأوسط قائمة على أساس قيام إدارة جو بايدن وكامالا هاريس. وبالتالي فإن مستقبل كتلة المعتدلين في المنطقة مرهون بعلاقاتها وتأثيرها في إدارة بايدن، بعد أن ينتهي الضباب في واشنطن. لذا فحسابات كتلة الاعتدال في الشرق الأوسط تبدأ بمعادلة بسيطة في القمة، سرعان ما تتحول إلى معادلات أصعب، لأنها ستمتد إلى أربع سنوات لا يمكن حسبان كل تطوراتها. بالفعل، فلو أن المنتصر النهائي كان ليكون ترمب، لتمكن قادة الإقليم من أن يتنبؤوا باستراتيجياته المقبلة لا سيما حيال إيران و “داعش” وسائر التكفيريين، على الرغم من الأخطاء الكثيرة خلال فترته الرئاسية. إلا أن قوى الاعتدال في الإقليم، لا سيما التحالف العربي، يستعدون للعام 2021 على أساس رئاسة بايدن وليس ترمب. وبالتالي فاستراتيجياتهم تنطلق من هذا الواقع المرسوم. فما يمكن للمعتدلين أن يستعدوا له قبل انطلاقة البيت الأبيض الجديد المفترض لبايدن؟
أولاً، من المهم للتحالف العربي أن يبقى صائباً في تقييمه الاستراتيجي ووسطياً، براغماتياً، غير متأثر بتحليلات أصحاب الرؤى المتسرعة من كل اتجاه، وبخاصة التحليلات المحكومة بالهدف الافتراضي لا بالواقع الفعلي. فعلى أصحاب القرار في الإقليم أن لا يتسرعوا في القلق المفرط الذي يدفعهم إلى قرارات دراماتيكية، أي أن يقوموا بوثبات إلى أحضان قوى دولية مضادة لواشنطن من دون تقييم حذق. ومن ناحية أخرى أن لا يناموا على وسادة الوعود الحريرية التي يرسمها بعض “خبراء التجارة الإعلامية” الذين يعدون بالعصر الذهبي المقبل في العلاقات الأميركية – العربية، وهو بالطبع لن يكون كذلك. المطلوب أن يتقدم محور المعتدلين بخطى واثقة، ثابتة، حذرة، عليمة، وجاهزة لكل الاحتمالات. وسبب هكذا آلية هو أن الولايات المتحدة قد تغيرت، والشرق الأوسط تغير أيضاً وقدرة المناورات قد تقلصت، والوقائع على الأرض قد تبدلت كثيراً.
أميركا قد تغيرت بغض النظر عمّن سيكون سيد البيت الأبيض. فقوى أقصى اليسار قد تنظمت أكثر، وبات لها صوت أكبر، وأعضاء مؤثرون في الكونغرس، وعبرهم بات النفوذ الإيراني والإخواني أعمق في الإعلام والسياسة. وكما بينته الانتخابات الأخيرة بغض النظر عن المنتصر، إلا أن الآلة السياسية والمنظومة الشعبية للرئيس السابق باراك أوباما هي الأقوى بدرجات من المؤسسة الحزبية للجمهوريين. وبالتالي فإن تيار ترمب ما لم يكن في السلطة، فهو غير قادر على حماية مكتسبات عهده في السياسة الخارجية، لا سيما حيال الشرق الأوسط. إلا في ما يتعلق بأمرين، الأمن القومي الأميركي والعلاقة مع إسرائيل.
في الوقت نفسه، الشرق الأوسط قد تغير أيضاً. بين 2000 و2016، انطلق التحالف العربي من الرياض، وفككت “خلافة داعش” الجغرافية، وتوسعت الإصلاحات السعودية، ووُضع الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب الأميركي، وانسحبت واشنطن من الاتفاق النووي، وتوسعت رقعة انتشار الجيش الوطني الليبي، وعززت قدرات الجيش المصري ضد الإرهابيين، عدا عن تقليص التوسع الحوثي في اليمن، وتقوية القوات الكردية في سوريا والعراق، وانفجار ثلاثة ثورات شعبية ضد إيران في العراق، ولبنان، والمدن العراقية. إلى ذلك تغيير النظام في الخرطوم، وبزوغ الحركة المقاومة للإخوان في تونس. كل هذه التطورات المزلزلة لمعادلات الـ 8 سنوات السابقة تحت عهد الرئيس أوباما، باتت واقعة كمحدلة يصعب دفعها إلى الوراء. ولعل التسونامي الدبلوماسي الذي جرف عقوداً من الجمود تجسد في معاهدة إبراهيم التي شهدت توقيع ثلاثة اتفاقات سلام بين الإمارات والبحرين والسودان من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى.
فهل كل هذه الجبال التي تحركت، ستعود إلى الوراء؟ لا أعتقد. فالمقاومات المتعددة ضد التوسع الإيراني، وممانعة السيطرة “الميليشياوية الإسلاموية” في طول المنطقة وعرضها لا يمكن أن تعود إلى الوراء. والسبب الأساسي أن هذه الموجات العميقة مدعومة من شعوب ملت من التطرف، ورفضت منطق الحروب الدائمة وتريد مجتمعاتها أن تلحق بالأمم المتقدمة المزدهرة.
لذا، فإذا جاءت إدارة بايدن لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء سترى أن الثمن سيعلو فوق الفوائد أياً كانت الحسابات. وحتى لو افترضنا جدلاً أنه كان بصيصاً “ميكروسكوبياً” بأن يعود ترمب عبر عجيبة قانونية، فسيرى منطقة تريد أكثر مما تحقق في الأربع سنوات الماضية ولن ترضى بالنتائج الفاترة.
لذا، أمام محور الاعتدال فرص هائلة لفرض واقع جديد في الشرق الأوسط، أياً كان سيد البيت الأبيض في 2021. أولاً، لا تراجع عن معاهدة إبراهيم ولا عن اتفاقيات السلام، أياً كان الثمن، حتى لو كان مساعدات خارجية، لأن “كتلة السلام” لديها القدرات بأن تساعد نفسها، وأيضاً من الأرهاب، وأن توسع دائرة اتفاقيات السلام. والأهم أـن الأكثرية الساحقة من الشعب الأميركي يدعم هكذا سلاماً، بغض النظر عن الأحزاب والقيادات.
ثانياً، الاستمرار في مواجهة الإرهاب في كل بقع المنطقة، في الوقت الذي ينتشر هذا العنف التكفيري في أوروبا، لا يمكن إلا أن يستحصل على تضامن أطلسي وتعاطف شعبي غربي.
ثالثاً، إن استمرار التقدم الإنساني في عدد من الدول العربية، والتبادل التكنولوجي والاقتصادي مع إسرائيل، والوثوب المدني إلى الأمام، بينما يعم القمع في إيران ومستعمراتها ودول المحور الإخواني، سيجعل العودة إلى سياسات الماضي بنظر الأميركيين صعب المنال لدى الرأي العام، بعد الخروج من أزمة داخلية عميقة تحتاج إلى كثير من الوحدة الداخلية لتلتئم الجروح.
من هنا، فان الآتي لن يكون على حساب المعتدلين إطلاقاً، بل على العكس، قد تسير الريح بما كانت تشتهيه سفنهم في الأعوام الماضية. لكن، وهو شرط أساسي كبير، على كتلة الاعتدال أن تعي دورها، وتعرف قراءة المرحلة وألا تستسلم لمروجي التحليلات الفاشلة بمجرد أنها لديها عناوين بريدية في واشنطن.
أميركا تتمخض، والأهم ليس ما يُرى الآن على شاشات التلفزة، بل ما يدور في ذهن الناس. لذا فأياً تكن نتائج الأزمات الداخلية في الولايات المتحدة، وهي أمر يحسمه الأميركيون بمفردهم، على معتدلي الشرق الأوسط أن يقرروا ما يريدونه لأوطانهم، ويُعلموا العالم بذلك.