هل بلغت العاصفة السعودية مداها أم أن هناك المزيد؟
ناصر قنديل-البناء
– يتولى بعض اللبنانيين «الغيارى على السيادة» الترويج لمخاطر تنتظر اللبنانيين العاملين في الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، فتحدث بعضهم عن وقف التحويلات، وتحدث آخرون عن تسريح اللبنانيين العاملين في بلدان الخليج من أعمالهم وإعادتهم إلى لبنان، وبمعزل عما يكشفه ذلك من طلاق هؤلاء مع كل معاني الوطنية، وعن عدم استبعاد لجوء السعودية التي فجرت هذه الأزمة بذرائع ضعيفة، إلى ما أشد إيذاء أملاً بتحقيق الأهداف، سواء بشقها الانتقامي من لبنان، أو بشقها التفاوضي الهادف لفتح طرق المقايضة بين جبهتي لبنان واليمن، يرتبط البت بهذه الفرضية سلباً أو إيجاباً برؤية السياق الدولي للعاصفة السعودية، وما إذا كان مطلوباً تجميدها عند حدودها أم السماح لها بالمزيد، وساذج من يتوقع ذهاب السعودية للمزيد من التصعيد، إذا وقع التصعيد خارج السايق الأميركي لمقاربة أوضاع المنطقة.
– من الواضح أن الحركة اللبنانية السياسية قدمت نموذجاً عن قدرة عالية في إحباط التصعيد السعودي، وقد توزعت هذه الحركة على ثلاثة محاور، الأول هو ثبات وتماسك موقف الوزير جورج قرداحي الذي أربك التصعيد في لحظاته الأولى وتكفل وحيداً باحتواء الصدمة، عندما رفض الاعتذار والاستقالة، وهو عكس ما كانت تتوقعه الجهات السعودية من خلال تجربتها السابقة مع أزمة مشابهة بعد كلام للوزير شربل وهبة، ومن خلال ما افترضت أنه معرفتها بشخصية الوزير قرداحي، ولاحقاً تعزز موقف الوزير قرداحي بغطاء الوزير السابق سليمان فرنجية وبدعم وزراء ثنائي حركة أمل وحزب الله لتشكيل مظلة أمان تحول دون الإقالة، أما المحور الثاني فكان موقف وزير الخارجية عبدالله بوحبيب، الذي رسم معادلة الحرص على العلاقة مع السعودية لكن وفق معادلة ثلاثية، لا للإملاء، نعم للحوار، لا نملك أن نمنح السعودية رأس حزب الله ونرفض نظرية اتهامه بالهيمنة على الدولة واتهام الدولة بقبول هذه الهيمنة، وتمثل المحور الثالث بالحركة السياسية الدولية التي قادها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، والتي ذكرت بحركة مشابهة كان ينجح بالقيام بها الرئيس رفيق الحريري في الأزمات الكبرى، ولا يمكن لأحد إنكار حقيقة أن المواقف التي خرجت عن عواصم بحجم واشنطن وباريس وبرلين تؤكد التمسك ببقاء الحكومة وحفظ الاستقرار، بمقدار ما كانت تعبيراً عن مقاربة دولية مختلفة عن المقاربة السعودية، فهي كانت نتاجاً للحركة السريعة والفعالة التي قام بها الرئيس ميقاتي.
– الأهم في المواقف الدولية يبقى الموقف الأميركي، الذي يرسم سقوف مواقف حلفائه وخصوصاً السعودية، وقد برز الموقف الأميركي منذ حضور القائم بالأعمال في السفارة الأميركية إلى وزارة الخارجية للإنضمام إلى خلية الأزمة، في رسالة للرياض تؤكد التمايز في مقاربة الملف اللبناني، ثم جاء موقف وزير الخارجية الأميركي الذي شدد بعد لقاء الرئيس ميقاتي على التمسك ببقاء الحكومة وحفظ الاستقرار، وبعد الكلام عن عدم الرغبة بالتدخل في الخلاف اللبناني- السعودي، كما قال بلينكن في تصريح أول عاد ليقول إن واشنطن تتابع الأزمة بين لبنان ودول خليجية وتنصح بالحوار لحلها، ثم تحدثت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا من واشنطن لتقول إن الخارجية الأميركية تتحرك في الكواليس لبلورة حلول لهذه الأزمة، مشيرة إلى ثقتها بقرب التوصل إلى حلول، ويبقى أن جوهر الموقف الأميركي المختلف مع المقاربة السعودية نحو لبنان جاء إثر إعادة قراءة أميركية للمسار المفترض للتصعيد بعد سفن كسر الحصار، وترجمت إعادة القراءة برفع الحظر الأميركي عن ولادة الحكومة ولاحقاً عن استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية على رغم عقوبات قانون قيصر، والمشروعان يدخلان عملياً حيز التنفيذ.
– الأميركي كمدير لسياسات حلفائه في المنطقة وفي طلعيتهم السعودية، رسم سقفاً واضحاً منذ سفن كسر الحصار ترجمته تصريحات عدة كان أوضحها ما قاله وفد الكونغرس الذي زار بيروت في ذروة الأزمة، ومضمون هذا السقف، أولاً التمسك بالعداء للمقاومة وتصنيفها على لوائح الإرهاب ومواصلة ملاحقتها بالعقوبات، والتحريض عليها وتحميلها مسؤولية الأزمات، والسعي لتجميع الحلفاء في مواجهتها، والرهان على الانتخابات النيابية لإضعاف حضورها وحلفائها، وثانياً التأقلم مع حقيقة أن المقاومة قوة سياسية فاعلة لها حضورها النيابي ولا يمكن تجاهلها في تشكيل الحكومات، وهي قوة إقليمية كبرى لا يمكن إلغاؤها بالحروب، وإدراك أن التصعيد المفتوح تحت عنوان إسقاط لبنان أملاً بأن يسقط على رأسها قد يؤدي إلى إسقاط لبنان في حضنها، وثالثاً إخضاع المقاربة السياسية للوضع اللبناني لكل الرؤية الأميركية للمنطقة في مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان.
– وفقاً للضوابط الأميركية لإدارة الصراع في لبنان فقد تجاوزت السعودية السقف المرسوم، وهي تهدد السياسة الأميركية في بلد يملك ما يهدد أمن كيان الاحتلال، الذي يشكل أبرز أولويات السياسات الأميركية في إدارة تعاملها مع المنطقة، ولذلك يمكن القول إن أول المتوقع هو تجميد مفاعيل الأزمة عند حدودها الراهنة ومنع المزيد من التصعيد، تمهيداً لإطلاق تفاوض سعودي- أميركي يحدد الثمن الواقعي المطلوب وضعه على الطاولة مع الحكومة اللبنانية للتراجع عن الخطوات العدائية، وهو حكماً ليس الثمن الذي طلبته السعودية واختصره وزير الخارجية بو حبيب برأس حزب الله، وهو أمر فوق طاقة أميركا والسعودية، وليس الحكومة اللبنانية فقط، ويبقى السؤال هل يندفع التفاوض قبل أم بعد سقوط مأرب، فلكل ساعة ملائكتها.