من سوريا إلى القوقاز روسيا تستخلص الدروس: لا صداقة من طرف واحد
عشية التغيير المرتقب في الإدارة الأميركية، سجلت موسكو نقطتين لصالحها: الأولى في القوقاز والثانية في سوريا. وفي الحالتين، كان الهاجس الروسي تكريس أولوية دور موسكو على حساب تركيا في الحرب الأذرية الأرمينية، وعلى حساب تركيا وإيران معاً في سوريا، وتوجيه رسالة في الوقت ذاته إلى حليفيها، الأرميني والسوري، تفيد بأن روسيا ليست مجرد منظمة خيرية، وهي تنتظر أن يبادلها الحلفاء بالمثل.
اختارت القيادة الروسية انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية لتتحرّك نحو فرض وقف لإطلاق النار في ناغورنو قره باغ، ولتعقد في دمشق مؤتمراً لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، عملت على إعداده طوال السنتين الماضيتين من دون كبير نجاح.
وليس التزامن بين الخطوتين مستغرباً؛ ففي روسيا، يشبّهون التدخل في القوقاز بنظيره في سوريا نهاية صيف 2015، ويذهبون أبعد من ذلك للقول إنه مثلما أنقذت موسكو نظام بشار الأسد قبل خمس سنوات، تمكّنت أوائل هذا الشهر من إنقاذ أرمينيا من هجوم أذربيجاني كاسح كان يمكن أن يطال أراضيها بعد الانتهاء من إقليم ناغورنو قره باغ .
وفي هذا القول الكثير من الصحة، فعملية “الإنقاذ” في البلدين تمت في مواجهة خصم واضح مثّلته تركيا الأردوغانية بشكل خاص، بدعمها وتحريضها أذربيجان على أرمينيا، وبرعايتها منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سوريا، الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية المتطرفة كافة ودفع الانتفاضة إلى حرب طائفية. ولو أُتيح لأردوغان أن يكمل تحركه في سوريا لتمكّن من وضع يده عليها، أو على الجزء الأكبر منها، لكن الروس أوقفوا مشروعه السوري الكبير، وهذا ما فعلوه في القوقاز، حيث بلغ الأمر بالأتراك حدّ التفكير بجيش “تركي” يمتد من جنوب الاتحاد السوفياتي السابق إلى بحر إيجة.
وفعلاً، لم يُخفِ خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي خلال جولته نهاية الشهر الماضي في آسيا الوسطى سعي حكومته إلى “إنشاء جيش موحّد للشعوب التركية”، بحسب ما جاء في صحيفة “تركيا”.
وبحث أكار هذا الأمر مع وزير الدفاع الكازاخستاني في تكرار لمحاولات سابقة جرت فور انهيار الاتحاد السوفياتي، وليس خافياً أن تركيا الأردوغانية تطمح إلى إنشاء اتحاد تركي كنواة لما يُسمّى “العثمانية الجديدة”، إلا أن ما يعيقها هو استمرار ارتباط الجمهوريات ذات الأصول التركية بروسيا، عسكرياً واقتصادياً، بما فيها أذربيجان نفسها، فيما تلتزم كازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي كأعضاء إلى جانب موسكو ويريفان.
كانت حرب قره باغ فرصة لتركيا. كثيرون في أرمينيا وروسيا ذهبوا إلى اتهامها بقيادة هذه الحرب بهدف محاصرة الأولى وشلّ الثانية وإحكام السيطرة على أذربيجان، ما يسمح لأنقرة بإقامة قواعد على بحر قزوين والتحكم بطرق النفط والغاز، فيما وقفت إيران موقف المتفرج إلى حدّ كبير، هي التي تتمتع بعلاقات جيدة مع يريفان وتعيش فيها جالية أذرية كبرى. فطهران لا تمانع في إضعاف أي قوة على حدودها، ولا يعنيها كثيراً لو خرجت موسكو من هذه المعمعة أكثر ضعفاً وعزلةً. وهي في ذلك تلتقي أنقرة، ما يمكن أن يساعدهما لاحقاً على اقتسام مريح للجبنة السورية.
بدت روسيا مرتبكة مع تصاعد الحرب التركية – الأذرية ضد أرمينيا، التي سيطرت بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي على أراضٍ أذرية حول إقليم قره باغ تساوي مساحة الإقليم الأرميني ذاته. ولم تعترف أي دولة باستقلال ناغورنو قره باغ، بما في ذلك أرمينيا نفسها.
وفي أرمينيا التي تستضيف قاعدة عسكرية روسية رئيسة، راقبت موسكو باستياء غزل يريفان برئاسة رئيس الوزراء الحالي نيكول باشينيان مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مطمئنّةً إلى أن أمنها ستحميه موسكو في أي ظرف طارئ. انتظرت روسيا بلوغ الهجوم الأذري التركي ذروته، وكشفت عن استعانة أنقرة بمئات المقاتلين من تنظيماتها في سوريا، قبل أن تتحرك لتفرض اتفاقاً سترعى تنفيذه على الأرض بقوات خاصة، أرسلتها إلى منطقة القتال .
خلاصة التدخل الروسي كانت وقف التقدم الأذري التركي وانتشار قوات حفظ سلام روسية، من مهماتها السيطرة على الممر بين أرمينيا وناغورنو قره باغ، والممر الآخر بين أذربيجان وجيب ناخيتشيفان الأذربيجاني. في المقابل، لم تحقق تركيا ما كانت تطمح إليه، ولم تتمكّن من استتباع باكو التي قبلت بالحل الروسي النقيض لرغبات أنقرة .
ثمة أوجه تشابه كثيرة بين التدخل الروسي في القوقاز وفي سوريا. في الحالتين، كانت تركيا شريكاً متعباً وخصماً في الوقت ذاته، لكن ما يتردد في موسكو همساً وأحياناً صراحة، وما قيل سابقاً بشأن الأسد ويقال الآن عن المسؤولين في يريفان، يعني شيئاً واحداً، “المبدأ الأساس للسياسة الخارجية الروسية هو مبدأ المعاملة بالمثل، ينطبق على الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء”، بحسب ما كتب معلق روسي كبير .
كيف سيترجم الروس هذا المبدأ بعد تجربتيهما القوقازية والسورية؟
الواضح أنه بعد الحسم في الأولى، ستكون هناك خطوات ما في سوريا، كان مؤتمر اللاجئين اختباراً تمهيدياً لها لإثارة اهتمام العالم بالدور الروسي المركزي في بلاد الشام، إلا أن وجهة هذا الدور النهائية لن تُعرف قبل اتضاح صورة السياسة الأميركية في الأيام المتبقية من ولاية الرئيس دونالد ترمب، أو ستنتظر تسلّم خليفته جو بايدن مهامه.