وجهتا نظر حول الترسيم
شارل جبور- جريدة الجمهورية
هل تكون الحكومة المستقيلة، حكومة الرئيس حسان دياب، آخر حكومات عهد الرئيس ميشال عون؟ وهل هناك من إمكانية بعد لتأليف حكومة؟ وهل دخل لبنان هذه المرة في أزمة نظام فعلية ستقود إلى نظام جديد لا حكومة جديدة؟ وهل الرئيس ميشال عون هو آخر رئيس جمهورية مسيحي؟
يختلف الحديث، عن انّ حكومة دياب هي آخر حكومة في عهد الرئيس عون، عن حديث انّ عون هو آخر رئيس ماروني. فالحديث الأول هو واقعي لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأنّ ما لم يتحقق مع المبادرة الفرنسية لن يتحقق من دونها، وهذه المبادرة بشقّها الحكومي انتهت، والشق الآخر المستمر، هو مالي وانساني، واستمراره يرتبط بتمسّك فرنسا بدورها في لبنان، في مرحلة التسويات وتقاسم مواقع النفوذ الدولية، لا سيما انّ بيروت تشكّل موطئ قدم الوحيد لباريس في الشرق الأوسط، ولن تفرِّط بدورها في لبنان الذي يشكّل مدخلاً لدورها في المنطقة.
وهذا لا يعني انّ باريس لن تكرّر المحاولة لاحقاً، في حال وُجدت ظروف موضوعية تحول دون إفشالها للمرة الثانية على التوالي، الأمر الذي لا تحتمله. ولكن لا مؤشرات اليوم إلى إمكانية تحقيق خرق حكومي، والمحاولات الجدّية مرّحلة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، لأنّه طالما المعطيات ذاتها فالنتيجة ستكون نفسها، بخاصة، انّ باريس لا يمكن ان تشكّل حكومة بشروط «حزب الله».
السبب الثاني، لأنّ فريق 8 آذار لن يكرّر تجربة حكومة اللون الواحد، التي ستُواجه برفض محلي وتحديداً دولي، خصوصاً بعد إجهاض المبادرة الفرنسية، الأمر الذي سيفسّر بأنّه تحدٍ للإرادة الدولية، فيما اي حكومة من هذا النوع لن تقدِّم علاجاً للوضع المالي، بل ستزيد هذا الوضع سوءاً، لناحية انّ الأكثرية تسير عكس السير ومصرّة على دفع لبنان نحو الهاوية.
السبب الثالث، لأنّ العودة إلى حكومات التكنوسياسية لا تقلّ سوءاً عن حكومة اللون الواحد. فهذا النوع من الحكومات فشل فشلاً ذريعاً، ولم يعد تسويقه ممكناً، ليس من الزاوية الشعبية فقط، وحتى الإنتاجية التي توازي صفراً، إنما من الناحية الدولية أيضاً، لجهة عدم الاستعداد لمساعدة حكومة لبنانية يشارك فيها فريق 8 آذار برموزه السياسية. وبالتالي، هذا النوع من الحكومات في هذا الوقت، أصبح خارج الصلاحية.
وتبعاً للأسباب المشار إليها، فإنّ من الأنسب للفريق الحاكم الإبقاء على حكومة دياب بانتظار الظروف التي تسمح بتأليف الحكومة التي تحظى بالتوافق الداخلي والغطاء الخارجي، من أجل ان تتمكن من قيادة مشروع الإصلاح، فيما لا مؤشرات خارجية مسهّلة لولادة الحكومة، التي وُضعت على التوقيت الأميركي-الإيراني.
ولم يعد سراً الحديث عن تغيير النظام في لبنان، ربطاً بالهندسة الجديدة للمنطقة برمتها. بل تحدث الرئيس الفرنسي علانية عن الموضوع، الذي أدرجه ضمن خريطة طريق إنقاذية من شقين: الأوّل مالي، والثاني سياسي. ومعلوم، انّه بعد الانتخابات الأميركية سيتمّ وضع ملف المنطقة على نار حامية وتحديداً مستقبل الدور الإيراني. وفي حال سلكت الأمور هذا المنحى، فلن يكون لبنان أمام حكومة جديدة، إنما أمام نظام جديد وانتخابات جديدة تعيد إنتاج كل السلطة، فتكون بهذا المعنى الحكومة المستقيلة آخر حكومات العهد العوني.
وأما الحديث الآخر المتعلق بأنّ الرئيس عون هو آخر رئيس ماروني، فهو غير واقعي. والكلام نفسه قيل بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، والدخول في فراغ رئاسي طويل. وهذا الكلام يندرج في إطار التخويف البعيد عن اي معطيات فعلية، لأنّه من غير المطروح الإطاحة بالرئاسة المسيحية، ولأنّ المسيحيين ليسوا في لحظة ضعف او هزيمة سياسية، وهناك من يسعى لاقتسام حصتهم في النظام، بل اي تعديل في هذا النظام سيُقابل بتعديل يعزّز وضعيتهم التي تحظى برعاية دولية، فضلاً عن انّ وضعهم الداخلي أفضل بكثير من وضع غيرهم من الطوائف، وبالتالي، كل الحديث عن انّ عون هو آخر رؤساء الجمهورية لا أساس له من الصحة.
فلا خوف على رئاسة الجمهورية، وقد يكون الرئيس عون آخر رئيس في النظام الحالي، وليس آخر رئيس في لبنان، عن طريق الإيحاء بأنّ دور المسيحيين انتهى، فيما هذا الدور الوطني بالذات لا خوف عليه وما زال، خلافاً لما يعتقده البعض، الأقوى والأفعل، إنما كل الخوف على لبنان واللبنانيين من الدخول في فوضى او حرب، كشف ماكرون صراحة بأنّ جوهر مبادرته كان بهدف تعطيل هذه الحرب وإفشالها، فيما عون كان يرغب في نجاح المبادرة الفرنسية، بغية تظليل عهده بغطاء فرنسي، بدلاً من ان يكون مكشوفاً ومتروكاً ومشرّعاً على تطورات ترتد سلباً بالدرجة الأولى عليه.
فلو تشكّلت حكومة الرئيس مصطفى أديب لكان ضَمَن عون، في حال الذهاب إلى تغيير النظام، بأن يؤدي عهده الدور الانتقالي من مرحلة إلى أخرى، فيسهر على تنفيذ بنود الاتفاق الجديد، فيما في ظلّ الفراغ الحالي، لا يمكن ضمان اي شيء، لا سيما انّ الفراغ سيكون مفتوحاً لثلاثة اعتبارات أساسية:
الاعتبار الأول، لأنّ طهران لن تسهِّل إنهاء الفراغ، سوى في حال انتزاعها مقايضة مقبولة من الرئيس الأميركي المجدّد له، او الرئيس الجديد. وهذه المقايضة مستبعدة كلياً في ظلّ الرؤية الأميركية الجديدة، التي أسقطت كل مفهوم المقايضات الذي شكّل ضرراً كبيراً ليس على لبنان فحسب، إنما على أميركا نفسها والمنطقة برمتها، فيما كان يكفي ان يصار إلى تطبيق اتفاق الطائف في العام 1990 لتجنيب لبنان والعالم المآسي والكوارث بسبب تلزيم لبنان لسوريا.
الاعتبار الثاني، لأنّ واشنطن لن تضع لبنان على طاولة البحث قبل شباط 2021.
والاعتبار الثالث، لأنّ «حزب الله» لن يكون في وارد القبول بحكومة لا يسيطر على قرارها في مرحلة تحولات استراتيجية، وقد أعلن السيد حسن نصرالله صراحة، بأنّ حزبه لن يفاوض على مشاركته في الحكومة، التي يعتبرها بديهية وغير قابلة للنقاش.
فتبعاً لكل ما تقدّم، هل تكون حكومة دياب آخر حكومات العهد؟ لا يمكن الجزم لا في هذا الاتجاه ولا ذاك، ولكن الأكيد، انّ صعوبات التأليف تعدّ ولا تحصى، بدءاً من المبادرة الفرنسية المعلّقة على حبل التطورات الدولية-الإقليمية، مروراً بسقف شروط «حزب الله» وعمقه الإيراني، وصولاً إلى توافر الظروف الموضوعية الإقليمية والمحلية، التي تقود إلى البحث في أزمة النظام لا أزمة الحكومة، وعندذاك يصبح المطروح إعادة إنتاج كل السلطة لا الحكومة فقط.
ومن الواضح، انّ الملف الحكومي برّمته دخل في جمود ما بعده جمود، معطوف على رتابة سياسية مرشحة ان تطول، مع تعليق فرنسا لمبادرتها، وإصرار «حزب الله» على شروطه في التأليف، التي لا تنسجم مع طبيعة المرحلة الاستثنائية، حيث من الصعوبة بمكان كسر هذه الحلقة، سوى في حال بروز تطورات دراماتيكية تدفع القوى المعنية إلى تدوير الزوايا. وباستثناء ذلك، لا حكومة في الأفق، والعنوان البديل في هذه المرحلة، الذي سيحاول أصحاب الشأن إشغال الرأي العام فيه، هو ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، في ظلّ وجود وجهتي نظر حول هذا الموضوع:
الوجهة الأولى، تقول انّ «حزب الله» يعتمد التكتيك نفسه الذي اعتمده الرئيس حافظ الأسد، الذي أوحى للأميركيين برغبته واستعداده للسلام، ولكن عندما حُشر ودقّت ساعة الجّد تذرّع بـ»بحيرة طبرية»، من أجل إجهاض المسار السلمي انسجاماً مع مصلحته وعقيدته، والحزب سيسلك المسار نفسه، كونه بحاجة لإيهام واشنطن باستعداده للانخراط في المفاوضات والمقايضات في هذه المرحلة بالتحديد، ولكنه وقت الجدّ سيجد أكثر من «طبرية» لبنانية يتحجج بها لوقف الترسيم.
الوجهة الثانية، تقول انّ الحزب سيسلِّف واشنطن ورقة الترسيم، طالما انّها لا تشمل مزارع شبعا التي تمنحه ذريعة المقاومة، وهو تقصّد الإعلان عن ذلك قبل نتائج الانتخابات الأميركية، كي لا يُقال بعدها بأنّه أُجبر على اعتماد هذا المسار، وهي رسالة إيرانية، بأنّ التعاون ممكن ولكن ضمن الحفاظ على مصالح محور الممانعة، اي محاولة لجس نبض واشنطن حيال المقايضة واحتمالاتها وسقفها. وفي مطلق الأحوال، إنّ إعلان «اتفاق الإطار» هو هدية من الثنائي الشيعي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي نجح في تحقيق اختراقات سلمية بين الدول الخليجية وإسرائيل. وهذا الإعلان يصبّ في الخانة نفسها، ولو كونه إطاراً تفاوضياً لا سلمياً، إذ لم يكن مضطراً الرئيس نبيه بري ولا محشوراً للإعلان عنه في هذا التوقيت بالذات، الذي يخدم مصلحة ترامب الانتخابية وصورته التفاوضية بالدرجة الأولى، ويؤشر بوضوح إلى انّ الثنائي قدّم لترامب ما لم يقدّمه لماكرون، وانّه ينتظر من الأول «cadeau de retour».