نهاية القوّة الأميركيّة
بعيداً مِن عالم السياسة، ثمّة احتمال لأن يشكّل فوز ترامب تحوّلاً جذريّاً في علاقة الولايات المتحدة مع بقية الدول، لأن فوزه يمكن أن يوحي للآخرين بأن واشنطن تخلّت عن تطلّعاتها لتولّي قيادة العالم. ومن شأن ذلك أن يُنبئ بفترة من الفوضى والصراع المحتدم، حيث تتّجه الدول إلى شريعة الغاب وتتزاحم من أجل البقاء. ولاية جديدة لترامب ربّما تثبت ما يخشاه كثر: … قوّة أميركا أضحت شيئاً من الماضي.
تُقدّم ولاية ترامب الأولى دليلاً شاملاً عمّا سيأتي لاحقاً. تحت قيادته، انسحبت الولايات المتحدة من بعض التزاماتها الرئيسة. حدّد الرئيس الأميركي مسار المواجهة مع الصين، واتّبع سياسةً غير متجانسة مع روسيا، فيما سرّعت علاقة الإدارة الوثيقة والاستثنائية مع إسرائيل، إضافة إلى شراكتها مع دول الخليج، من عملية التحوّل في سياسات الشرق الأوسط. نُحِّيت مسألة إقامة دولة فلسطينية جانباً، ليوجَّه التركيز نحو إنشاء تحالفات متوازنة ضدّ إيران وتركيا.
لترامب ومستشاريه نظرة للعالم، وإن لم تكن ناضجة، فهي متماسكة في معظمها. نظرةٌ تجسّدت في شعار «أميركا أولاً»، وفي رؤية تُصوِّر العالم على أنه ساحة للمنافسة التجارية والعسكرية، لا أصدقاء للولايات المتحدة فيه بل مجرّد مصالح. على رغم فجاجتها، تمثّل هذه الرؤية انعكاساً لما أشار إليه المؤرّخ آرثر شليزنغر قبل 25 عاماً على أنّه رغبةُ «العودة إلى الرحم». قلّل شليزنغر من شأن كون أميركا قوّة فاعلة دائماً على صعيد العالم تدفعها قيمها أحياناً إلى ارتباطات خارجية. بيدَ أن الدافع الانعزالي، ولا سيما في تجلّياته الأصيلة والعدائية، كان موجوداً لفترة طويلة جداً. إلاّ أن ترامب عبّر ببساطة عن إحدى نسخاته، وهي وجهة النظر القائلة إن الآخرين يلعبون دور الأميركيين كحمقى، وإن المؤسسات الدولية هي أدوات مخزية في يَد من يريد تقويض سيادة الولايات المتحدة، وإن إراقة الدماء وبثّ الرعب في أيّ مكان آخر لا يمكن أن يؤثّرا حقاً في جمهورية عملاقة مطوَّقة بمحيطين عظيمين ودول ضعيفة.
الأسلوب والمضمون
تميّزت ولاية ترامب الأولى بالعجرفة والإهانات وافتعال الخلافات مع الحلفاء، فضلاً عن تملُّق الحكام المستبدين. كما اتّسمت بعدم الكفاءة الإدارية، والذي تفاقم بسبب عدم رغبة الحزب الجمهوري في العمل في مجال السياسة الخارجية. إذاً، الولاية الثانية مسألة تتطلّب التفكير على مستوى المضمون (سياسات الإدارة) والأسلوب (أسلوب الإدارة وموظفيها).
من وجهة نظر سياسية، الشبهة الأكبر تتعلّق برغبة ترامب في إعادة انتخابه لضمان مكانته في التاريخ، وهو دافع معروف جيداً لدى الرؤساء في ولايتهم الثانية. عادة ما يحاول الرئيس تحقيق رغبته هذه من خلال السعي إلى إحراز بعض الاتفاقات الكبيرة: السلام الإسرائيلي – الفلسطيني هو المفضّل دائماً. بالنسبة إلى ترامب، من المنصف القول إن عقد الصفقات الكبيرة شكّل محور شخصيته كرجل أعمال أدخل حكمته التجارية التي راكمها إلى عالم الحكومة. وأكبر اتفاق يمكن أن يبرمه هو المفاوضات التجارية مع الصين، ما من شأنه أيضاً أن يخفّف من حدّة التوتر الاستراتيجي المتصاعد بين البلدين. أمّا الصفقات الأقلّ شأناً، فقد تشمل إبرام اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني أو مصالحة مع روسيا. ولضمان هذه الصفقات، ربمّا يكون ترامب على استعداد للتخلي عن الكثير. في الحقيقة، لا توجد صفقة متاحة من هذه الصفقات الكبيرة، كما أن التنافس بين واشنطن وبكين بات متجذّراً ليس فقط في المنطق الجيوسياسي للصين الصاعدة، بل أيضاً في الشكوك المتبادلة العميقة ورغبة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في تطهير منطقته من النفوذ الأميركي. وحتى لو أراد ترامب التوصّل إلى اتفاق، يُحتمل أن ترفض بكين الجلوس معه إلى الطاولة.
في الوقت نفسه، من غير المرجّح أن تُقدّم المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية نتائج أفضل من تلك التي كان يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا عليها في ظلّ إدارة بيل كلينتون (بل أسوأ بكثير)، ولا شكّ في أنها ستفشل في تلبية تطلّعاتهم إلى إقامة دولة منزوعة السلاح وعاصمتها القدس. هنا، يبرز الأسلوب. خطاب ترامب تجاه الحلفاء التقليديين يُعدُّ إهانة شبه مستمرة: فهو بالتأكيد لا يولي الكثير من الاهتمام لمصالحهم أو مخاوفهم. وعلى رغم أنه قد يعتقد بأن الولايات المتحدة قادرة حقاً على المضي قُدُماً لوحدها، إلا أنه سيدرك أنه من الصعب إبرام صفقة مع الصين يعارضها الحلفاء الآسيويون الرئيسون، أو تحقيق سلام إسرائيلي – فلسطيني بينما الأنظمة العربية متروكة لمصيرها، أو التوسّط لاتفاق مع روسيا إذا ما كانت أوروبا تقف ضدّه.
بل إن الأهمّ من ذلك، هو أنّ ترامب سيجد نفسه دائماً في وضع حرج بسبب افتقاده إلى الكفاءة الإدارية. وبعدما أحبطته البيروقراطية، سيدرك أن عمل السياسة الخارجية لا يتمّ ببساطة من البيت الأبيض. فالبيروقراطيات التي تعاني من نقص في الموظفين أو تفتقر إلى الكفاءة، تعيق دائماً سير الأعمال بطرق متعمّدة وغير متعمّدة على السواء. يد ترامب لن تكون مقيّدة تماماً؛ إذا أمر القوّات الأميركية المنتشرة في أفغانستان والعراق، أو حتى في أوروبا، بالعودة إلى البلاد، فإن ذلك سيحدث – (يبدو لافتاً نجاح المعنيّين بدفعه ببطء نحو سحب القوات من سوريا). لكن إذا أصرّ، فهو قادر على سحبها وإلغاء تلك الالتزامات (مثل هذا التخفيض، سيغذّي مرّة أخرى صورته كصانع سلام). ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن عجرفة ترامب، والإشفاق على الذات، وعدم الاتساق، والنرجسية، والعدائية، والعجز، ستتلاشى جميعها بعد انتصاره الأعجوبي على خصمه الديمقراطي. ومن شأن نسخته المتذبذبة والمتقلّبة من «أميركا أولاً» أن تلحق ضرراً أكبر بكثير من انعزالية «العودة إلى الرحم» التقليدية.
شريعة الغاب
على رغم أن رئاسة ترامب كانت مثيرة للمشاكل وسيئة بالقدر الذي شوّهت فيه سمعة الولايات المتحدة، فإن النتيجة ستكون أسوأ بكثير بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا الأكثر انتقاداً للرئيس. وهذا يعني العودة إلى عالم لا قانون فيه سوى شريعة الغاب. عالمٌ أقرب إلى فوضى العشرينيات والثلاثينيات ولكن أسوأ، حيث لا وجود لدولة حاضرة وعلى استعداد لتهبّ للمساعدة. أو بالأحرى سيصبح العالم أحادياً – راديكالياً، حيث يمكن إضفاء شرعية على كلّ أدوات القوّة بذريعة الضرورة. ستجنح الدول أكثر إلى امتلاك أسلحة نووية، وستعيد النظر في اللجوء إلى الاغتيالات والأسلحة البيولوجية والتخريب الروتيني كوسائل من أجل تحقيق الأمن.
كقوّة عظمى، ستضعف الولايات المتحدة بشدّة على خلفيّة النزاعات الداخلية. انتزاع ولاية ثانية لترامب عن طريق قمع الناخبين، ومراوغات الهيئة الانتخابية، والمناورة البارعة للسياسيين الجمهوريين، ربّما تسفر عن نظام سياسي غير مستقرّ. فالحزب الجمهوري، كما هو الآن، محكوم عليه بالفشل ديموغرافياً، خصوصاً أنه يستمدّ دعمه الأكبر من شريحة ضيّقة وهرمة من الناخبين. شهدت الشوارع الأميركية أعمال عنف انطلاقاً من دوافع سياسية، وقد تشهد المزيد. قد لا تندلع حرب أهلية في الحال، لكن يمكننا أن نتخيّل مهاجمة وقتل قادة سياسيين على يد أتباع أيٍّ من الجانبين، وكلّ ذلك بتحريض من ترامب المنتصر ومعارضيه الغاضبين والمتطرّفين. وبطبيعة الحال، سيجد خصوم الولايات المتحدة من الأجانب السبل الكفيلة بإشعال النيران.
أكبر عواقب إدارة ترامب الثانية هي تلك التي يصعب التنبّؤ بها. ولاية أخرى قد تفرض تحوّلاً على الطريقة التي يرى فيها الجميع الولايات المتحدة. فمنذ نشأتها، كانت هذه البلاد أرض المستقبل، ووجهة ازدهار الأعمال، ومكاناً واعداً بصرف النظر عن عيوبها ومحنها. في ولايته الثانية، قد تصبح مجرّد نصب تذكاري، لا دولة فاشلة، بل رؤية فاشلة، قوّة هائلة في انحدار حان وقتها وانتهى. واجهت الولايات المتحدة مثل هذا التعديل الجذري لصورتها من قَبل، حين شكّكت الحرب الأهلية في وجود البلاد كدولة موحّدة، وألقت أزمة الكساد الأعظم بظلال التشكيك على نموذجها السياسي والاقتصادي. في كلتا الحالتين، كان الرؤساء الاستثنائيون يستمدّون إلهامهم من المُثل العليا لمؤسِّسي البلاد، مدركين تماماً الحاجة إلى توجيه الأميركيين إلى مستقبل أكثر إشراقاً. ولهذا السبب، ركّزت بعض التشريعات الرئيسة للرئيس أبراهام لنكولن على الانفتاح على الغرب، وللسبب عينه أكد الرئيس فرانكلين روزفلت للأميركيين أنه ليس لديهم ما يخشونه سوى الخوف نفسه.
ثمّ جاء شعار ترامب «لنُعِدْ لأميركا عظمتها». وقع الرئيس تحت تأثير رؤية انحدار تقوّض كلّ ما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله من خير في العالم. رؤية ترامب للعظمة تفتقر إلى المضمون إلى حدّ يثير الدهشة، كما أن جاذبيته السياسية تستند إلى الاستياء، والخسارة، والخوف من التنحية، وحتى اليأس. ولاية ثانية تعني أن الولايات المتحدة ستدخل في أزمة متعدّدة الأوجه، وعميقة على غرار أزمة خمسينيات القرن السابع عشر وثلاثينيات القرن الثامن عشر. ولكن هذه المرّة، سيكون للبلاد زعيم عاجز بسبب نرجسيته، وعدم كفاءته، بل وأكثر من ذلك، سوء فهمه لما أطلق عليه أحد أسلافه الجمهوريين في كثير من الأحيان: «آخر وأفضل أمل للإنسان».
(عن «فورين أفيرز» – بتصرّف)