تجاوزت الأنفاق كونها واحداً من الأسلحة الهجومية التي قد تُستخدم لمرّة واحدة في تنفيذ مهمّة عسكرية خلف خطوط العدو. تخطّى الأمر هذا المستوى التكتيكي إلى ما هو أكثر ديناميكية وعملية: غرف محصّنة، ومرابض صواريخ، ومراكز تحكّم وسيطرة وقيادة، وَضع الجيش الإسرائيلي مهمّة تدميرها في أعلى سلّم أولوياته، وجهّز في سبيل ذلك قنابل ذكية تخترق طبقات الأرض بعمق يتجاوز العشرة أمتار، من طرازَي «جي بي يو-31» و»جي بي يو-39». لكن هذه القنابل، التي ظنّ العدو أن استخدامها سيكون مفاجئاً، قابلتها المقاومة بمفاجأة مماثلة. تقول مصادر في المقاومة، لـ»الأخبار»، إن ثمّة إحاطة معلوماتية عن نوع معيّن من القنابل حضّره سلاح الجوّ الإسرائيلي لتدمير الأنفاق، كانت السبب في الخروج من المعركة بأقلّ الخسائر، إذ إن المقاومة غيّرت على نحو شبه كلّي عمق الأنفاق التي حفرتها خلال الأعوام الماضية، من عمق كان لا يتجاوز الـ30 متراً، إلى أعماق تصل إلى حدود السعبين متراً، الأمر الذي جعل إمكانية تضرّرها شبه مستحيلة.
غير أن الحرب الأخيرة كشفت امتلاك العدو قدراً غير يسير من المعلومات عن مسار أنفاق المقاومة، الأمر الذي يعتبره مصدر مطّلع في المقاومة «معقولاً ومتوقّعاً»، بالنظر إلى أنه «من الطبيعي أن تثمر ستّ سنوات متواصلة من الرقابة عبر الطائرات المُسيّرة التي لا تفارق سماء القطاع، إلى جانب العملاء الذين يعملون على الأرض، تجميع معلومات عن هذا السلاح»، لكن المصدر ذاته يؤكد أن الضربات الإسرائيلية كانت افتراضية إلى حدّ كبير، مُرجّحاً أن «أساس المعلومة التي يمتلكها الاحتلال تبدأ من رصده بداية عمليات الحفر التي تتمّ عادة فوق سطح الأرض ومن أماكن مكشوفة، حيث يمتلك العدو حينها معلومة عن وجود نفق في نطاق جغرافي معين، فيعمل على استخدام تكتيك الحزام الناري، الذي يغطّي بالقنابل الارتجاجية مساحة مفترضة عن مسار النفق، الأمر الذي يفسّر الإصابات غير الدقيقة للأنفاق، والتي ساهمت في تضرّر بعضها دون تخريبها». كما أن قدراً كبيراً من الضربات وُجّه إلى أنفاق مهجورة، سبق استخدامها في حرب عام 2014، ولم تعد ذات قيمة عملية.

بالنسبة إلى «سرايا القدس»، فإن أنفاقها لم تتضرّر خلال المعركة الأخيرة، وهو ما يُرجعه مصدر في «السرايا» إلى «انعدام الاتصال الجغرافي بين الأنفاق، التي يؤدّي كلّ واحد منها وظيفة مغايرة للآخر، حيث لا تتّصل أنفاق الصواريخ وقذائف الهاون بمراكز السيطرة والتحكّم الخاصة بالقيادة، كما أن الأنفاق الهجومية معزولة بشكل كلّي عن أيّ من مثيلاتها. وإلى جانب ذلك، ساهم اتّخاذ العمل العسكري، الطابع التخصّصي، في انحسار المعلومات المتعلّقة بتلك الأنفاق في إطار أعداد محدّدة من المقاومين، ما قلّل من فرص ذيوع المعلومة وتردّدها، الأمر الذي قلّص هامش الخطأ». على نحو متّصل، تُظهر مقاطع مصوّرة بثّتها «سرايا القدس» من داخل واحد من أنفاقها، قدْر التطور الذي طرأ عليها، لجهة التحصين والحماية، وتوفير بيئة معيشية مناسبة للمقاومين تسمح ببقائهم فيها مدّة طويلة تصل إلى بضعة شهور من دون الحاجة إلى الاتصال بالخارج. فخَلْف المتحدّث العسكري باسم «السرايا» أبو البهاء، مثلاً، ظهرت شاشة تلفاز معلّقة على حائط إحدى الغرف التي جرى طلاء جدرانها باللون الأبيض، فيما بدا واضحاً أن ارتفاع النفق وعرضه يسمحان بتنقّل المقاومين في داخلها بأريحية كبيرة. ولا تُقدّم «السرايا» معلومات إحصائية دقيقة عن أنفاقها، فليس طولها ومساراتها تفاصيل يمكن تقديمها كسبق صحافي، لكنها توضح في الوقت نفسه أنها امتلكت ما تحتاج إليه منها لتنفيذ مختلف المهامّ القتالية، من إطلاق الصواريخ، إلى الغرف المحصّنة التي لا تطاولها أقوى القنابل الارتجاجية. غير أن الأكثر أهمية في هذا الصدد، أن شبكة الأنفاق بعد «سيف القدس» «بألف خير»، يقول أحد المقاومين الذين يعملون في هذه الوحدة، مُبيّناً أنه «تمّت عمليات بناء تلك الأنفاق على نحوٍ عالٍ من السرّية، حتى إن المقاومين الذين كانوا يعملون على حفرها لا يمتلكون إحاطة معلوماتية بمسارها وطبيعتها، إذ تنحصر تفاصيلها بالوحدات التي تُوكل إليها مهمّة استخدامها».

الغازات القاتلة لم تفاجئنا أيضاً
عمد جيش الاحتلال، في الجولة الأخيرة، إلى توظيف ما ظنّه «المفاجأة القاتلة» التي يمكن عبرها تحييد سلاح الأنفاق، إذ عمد إلى استخدام كمّيات كبيرة من غازات قاتلة تُحقن بها الأنفاق عبر الاستهداف المزدوج لمسارات افتراضية لها، فيقوم الصاروخ الأوّل بمهمة الاختراق، فيما الثاني يحمل كمّيات كبيرة من الغازات التي تتولّى مهمّة القضاء على المقاومين. هنا، يكشف مصدر في المقاومة أن ثمّة تقديراً مخابراتياً كانت تمتلكه الأخيرة سلفاً، بِنِيّة العدو استخدام مثل هذه الغازات، بعدما دلّلت بعض المتعلّقات التي ضبطتها المقاومة في واحدة من عمليات الوحدات الإسرائيلية الخاصة التي جرى إفشالها، على وجود تلك النيّة، وهو ما تبعه تحضير مجموعة من الإجراءات الوقائية، التي أدّت دوراً متقدّماً في توفير الحماية من الغازات.