الصراط المستقيم: بين الهداية والضلال في النظرية والواقع

إليكم نص المقال:
طال الحديث عن الدعاء الشريف الذي يبدأ بجملة: «اللَّهُمَّ أَدْخِلْ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ السُّرُورَ»، والذي يُقرأ كل يوم عقب صلوات شهر رمضان المبارك. وفي ظلاله، أردنا أن نطرح أيضًا، بشكل عابر، بعض الرؤى العامة التي لها أثر مباشر في الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، وكذلك في نوع الاجتهاد وفتاوى فقهائنا؛ انطلاقًا من هذا الدافع والهدف، وهو أننا بحاجة إلى إصلاح بعض الأفكار والآراء، وكذلك بعض سلوكياتنا، سواء داخل المجتمع الإسلامي، أو في علاقاتنا مع أخوتنا الدين والمذهب، أو في علاقاتنا مع سائر البشر والشعوب. بل وحتى في التشريع وتنظيم وتفسير العلاقات السياسية والأنظمة الاجتماعية، انطلاقًا من موقع الحكومة الدينية، هناك حاجة لمزيد من تسليط الضوء على هذه المباحث. ومن هذا المنظور، انتقلنا إلى هذا السؤال: ما الخلفية الموجودة في مصادرنا الدينية بخصوص نوع النظرة إلى غير المتدينين بديننا؟
كان السؤال هو: إلى كم فئة يمكن تقسيم البشر بناءً على المعتقدات العقائدية؟ هل إلى فئتين أم أكثر؟ وإذا كانوا أكثر، فبأي معيار يمكن تقسيمهم، وإلى أي مجموعات؟ في هذا الموضوع، أُشير إلى بعض الروايات، من بينها رواية عن «زرارة» الذي كان من كبار الرواة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام). ولعل جزءًا من نظرة زرارة الخاصة، والنقاشات التي أجراها مع الإمام الباقر (عليه السلام)، تعود إلى مقتضيات شبابه وبعضًا من عدم نضجه، حيث كان يطرح النظرة المختلفة بشكل واضح، وكان الإمام (عليه السلام) من موقع الإمامة والرسالة والهداية، يبيّن جزءًا من الحقائق في هذا المجال
فيما عرضته في الروايات السابقة، رأينا أن الناس يُقسّمون من هذا المنظور إلى ست فئات. لكن هذه الفئات الست، كما قال الإمام، تُقسّم إلى ثلاث فئات أو مجموعات. ومن الناحية العقائدية، ومن الزاوية التي يُتابَع فيها هذا البحث، نحن نواجه تقسيمًا ثلاثيًّا وليس ثنائيًّا. ومع هذه التوضيحات، يمكن الآن الإشارة إلى سورة الفاتحة الشريفة، السورة التي نقرؤها مرارًا في صلواتنا اليومية وخارج الصلاة. فقد وردت هذه الفئات الثلاث في هذه السورة.
الهداية
في هذه السورة، نتوجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء ونسأله الهداية: «اهدنا الصراط المستقيم»، ثم نوضح ما هو «الصراط المستقيم»؟ من الواضح تمامًا أن هذا التوضيح يصدر من ألسنتنا نحن، وهو في الواقع استكمال للدعاء، إذ نقول: يا الله، أي طريق نطلب منك أن تهدينا إليه؟ في أي سبيل نرغب أن نُوضع؟ كمسلم موحد، إلى أي طريق تريد أن تهدينا؟ وأساسًا، ما هو الطريق المستقيم؟ إن الطريق المستقيم والحق ليس إلا واحدًا.
ليس لدينا صروط مستقيمة، وإن كان بعض المفكرين قد استخدموا تعبير ” صروط مستقيمة”، الذي قد يمكن رسم معنى صحيح له في محله. لكن من حيث الثبوت، لا يتوافق أن نعتبر وجود صروط مستقيمة متعددة في اعتقاداتنا في وقت واحد، مع الآية الشريفة في سورة الفاتحة، إذ إن الحق لا يتعدى صراطًا واحدًا، وكما جاء في آية أخرى: «ماذا بعد الحق إلا الضلال؟». فإذا كنا نعد الإسلام هو الحق، فمن الطبيعي أن لا نقبل ما سواه. وطبعًا، فإن تخطئة معتقدات أو أفعال الآخرين، عندما يكون الشخص في مقام العارف غير المعذور، فنحن نخطئ فكره وعمله. ولكن من ناحية التقييم القيمي تجاه من هو قاصر ومعذور، فله حساب مختلف، وقد تناولتُ في المقالات السابقة جزءًا من البحوث المتعلقة به، وسأكملها لاحقًا.
ما نقرؤه في سورة الفاتحة هو استكمال للدعاء، وهو: «صراط الذين أنعمت عليهم». ونحن نعدّ أن أعظم نعمة هي نعمة الدين ومعتقداتنا الإسلامية. وكما جاء في الآية الشريفة: «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه»، فإننا لا نعدّ غير “الإسلام” مقبولًا. وبالطبع، فإن “الإسلام” الذي ورد في هذه الآية، حتى لو لم نأخذه بمعناه الخاص، بل اعتبرناه بمعنى التسليم لله، فإن هذا التسليم لا يكون ذا معنى ولا موضوع بالنسبة لأولئك الذين ليسوا قاصرين بل هم مقصرون، ولذلك فقد حرموا أنفسهم من نعمة الهداية.
«صراط الذين أنعمت عليهم»، هذا هو الصراط الذي نطلبه من الله، وننفي صراطين آخرين؛ أحدهما صراط أولئك الذين غضب الله عليهم، والآخر صراط الضالين،. و”المغضوب عليهم” و”الضالين” شيئان مختلفان، رغم أن “المغضوب عليهم” هم أيضًا ضالون وقد ضلّوا طريقهم، لكن هنا، حيث ورد “المغضوب عليهم” إلى جانب “الضالين”، فهما صنفان، ويُقدّمان على أنهما جماعتان مختلفتان. من هما هاتان الفئتان؟ هما من شرحتُهما بلسان الإمام الباقر(ع) والإمام الصادق(ع) في المقالتين الماضيتين: أحدهما الكافرون بالمعنى الخاص، والآخر الضالون.
الناس ست فئات
قال الإمام الصادق(ع): الناس ست فئات، لكن هذه الفئات الست تنتهي إلى ثلاث مجموعات: “الإيمان، الكفر، والضلال”. والكافر، الذي هو بمعنى المقصر، وبحسب تعبير القرآن: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ»، يكون محل سخط وغضب إلهي، وقد ورد في آيات كثيرة أن هؤلاء من أهل النار والجحيم، وأن حسابهم يختلف عن مجموعة “الضالين”، أي أولئك الذين طريقهم ليس الطريق المستقيم.
نحن لا نريد أن نسلك صراط “الضالين”. فمع وجود الإسلام، لا نريد أن نسلك صراط سائر الأديان التوحيدية، وإن كانت بيننا وبينهم مشتركات كثيرة، بل وقد دُعينا في تلك المشتركات إلى الوحدة؛ كما ورد في هذه الآية: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ». لا تذهبوا نحو التثليث، لا تذهبوا نحو الأب والابن والروح القدس بالمعنى الذي تتصورونه، فذلك نوع من الشرك.
على أي حال، لا نريد صراط “الضالين”، ولكن حساب أهل “الضلال” يختلف عن حساب أولئك الذين غضب الله عليهم. إذن، فإن منشأ هذا التقسيم الثلاثي، الذي كان زرارة يصرّ على مقابلته بالتقسيم الثنائي، موجود في القرآن، وفي هذه السورة، سورة الفاتحة، نفسها؛ وطبعًا هو موجود أيضًا في آيات أخرى، ولكنّه ورد في أول سورة، بل وفي معنى ما، في أهم سورة تُعدّ “أمّ الكتاب”. فحساب “المغضوب عليهم” يختلف عن حساب “الضالين”.
وبعد هذا الشرح عن الآية الشريفة في سورة الفاتحة، ننتقل الآن إلى بعض الروايات الأخرى التي وردت في هذا السياق، وخاصة تلك التي وردت عن زرارة مع الإمام(ع). فقد فتح جناب الكليني، في الجزء الثاني من كتاب “الكافي” في طبعة الثمانية أجزاء، صفحة ٤٠١، بابًا بعنوان “باب الضلال”، وأورد فيه روايات حول من هو الكافر ومن هو المسلم؟ وهل هناك غير هذين الصنفين من الناس، ممن ليسوا كفارًا، ولا مسلمون؟ نعم، هناك روايات. وهنا سننقل بعضًا منها؛ من بينها الرواية الثانية عن زرارة نفسه، والتي يرويها بنفسه.
كان زرارة قد بلغ سن الزواج، لكنه لم يكن قد اختار امرأة بعد، ويبدو أنه كان في العقد الثالث من عمره. يروي أنه قال للإمام الباقر(ع): ما رأيكم في الزواج من هؤلاء الناس؟ أي من غالبية غير الشيعة، وكان يقصد تحديدًا الزواج من امرأة أو فتاة غير شيعية. وأضاف زرارة: لقد بلغت هذا السن الذي تراه، ولكنني لم أتزوج حتى الآن. فسأله الإمام: ما الذي يمنعك من الزواج؟
مشكلته العقائدية
فطرح زرارة مشكلته العقائدية، أو على نحو ما، مانعه الإيماني، وقال بمعنى آخر: ليست لدي مشكلة مالية، أو سكن، أو عمل، أو مشكلة جسدية، بل إنني مستعد للزواج. لكن قلقي ومانعي هو أنني أخشى أن يكون الزواج بهن غير جائز وغير حلال لي: «ما تقول في مناكحة الناس فإني قد بلغت ما ترى و ما تزوجت قط؛ قال: و ما يمنعك من ذلك؟ قلت: ما يمنعني إلا أني أخشى أن لا يكون يحل لي مناكحتهم فما تأمرني؟»
قال له الإمام: أنت شاب، فماذا تفعل؟ أي إنك بحاجة إلى زوجة بحكم سنك، فكيف تصبر؟ فأجاب زرارة: لديّ جارية. فقال الإمام: فهات الآن فبما تستحل الجواري؟ أكلّ الجواري من الشيعة؟! هؤلاء الجواري – على حد تعبير المتكلم – بعضهن عندما جُلبن إلى المجتمع الإسلامي لم يكنّ حتى مسلمات، فضلًا عن أن يكنّ شيعيات. فكيف تعتبرهن حلالًا لك؟
كان زرارة يطرح الإشكالات على طريقة طلبة العلم ويجيب على طريقتهم، فقال: قضية الجارية تختلف عن النساء الحرائر، فإذا لم توافقني الجارية في العقيدة، أو كان لها قول أو سلوك غير مقبول، فإنني أبيعها أو أبتعد عنها؛ فامتلاك الجارية لا يتطلب صعوبة الزواج الرسمي من النساء الحرائر.
قال الإمام: هذه الجارية التي تعتبرها حلالًا لك عن طريق الشراء، لا عن طريق الزواج، بأي معيار وبأي ضابط شرعي تعتبرها حلالًا لنفسك؟ فاعترف زرارة أنه لم يكن عنده جواب:
فسأل زرارة الإمام (ع) مرة أخرى: ما رأيكم؟ هل أتزوج أم لا؟ لم يشأ الإمام أن يُظهر أهمية كبيرة للموضوع بحيث يعطيه أمرًا مباشرًا، وإنما أراد أن يترك الأمر لتقدير زرارة، فقال: «ما أبالي أن تفعل»؛ لا يهمني إن فعلت أو لم تفعل! فأجاب زرارة: يمكن أن يفهم كلامك هذا «ما أبالي أن تفعل» بطريقتين: إحداهما أنكم تقصدون أنه لا فرق عندكم، والأخرى أنكم لا يهمكم إن وقعتُ في المعصية، ولذلك لا تأمرونني بشيء. بمعنى آخر: أي أن ما لا تقبله أو ما تشك فيه وفيه شبهة شرعية، لا علاقة لي به، ومسألتك ليست مسألتي. والأمر الآخر هو أنكم لا تهتمون إن وقعتُ في الحرام، ولهذا لا تصدرون لي أمرًا أعمل به.
الأنبياء السابقين
أشار الإمام (ع) إلى زواج النبي الأكرم (ص) ببعض النساء، وهي قضية ورد ذكرها في القرآن، وقدم الإمام شرحًا لا حاجة لذكره الآن. فقد قلن ما لم يكن ينبغي لهن قوله، كما أن بعض الأنبياء السابقين مثل نوح (ع) ولوط (ع) كانت لهما زوجتان، وصفهما القرآن بأنهما: «كانَتا تَحتَ عَبدَينِ مِن عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما»، أي اختارتا وسلكتا ما ينافي شأن الزوجية، ولم تؤمنا، وحدثت في بيت النبي بعض التصرفات التي ذمّها القرآن كذلك.
في الواقع، أراد الإمام (ع) من خلال بيان سُنّة النبي (ص) ومنهجه أن يجيب زرارة، لكن زرارة عاد واعترض بما معناه أن وضع النبي الأكرم (ص) يختلف عن وضعي؛ فالنبي (ص) كان له مقام مختلف، وزوجاته كنّ تحت أمره، وكان قادرًا على إدارتهم، ولم يكن أمامهن خيار سوى القبول، وكنّ قد قبلن بدين النبي؛ ولذلك فإن وضع النبي (ص) يختلف عن وضعي.
فأجابه الإمام بجواب يُفهم منه أنه خالف تفكير زرارة بشأن زوجات النبي (ص)، الذي كان ينطوي على نوع من حسن الظن، وبيّن له أنه رغم وجود بعض المشكلات الحادة، فإن النبي (ص) تزوجهن، واستمر في الزواج بهن، ولم يطلقهن؛ فسأل زرارة: ماذا أفعل؟ هل أتزوج بأمرك؟ ورغم أن الإمام الباقر (ع) قد أرشد زرارة، إلا أن قلب زرارة لم يطمئن بعد، وربما كان يريد جوابًا صريحًا ليتمكن لاحقًا، إن سأله أحدهم لماذا تزوجت من غير شيعية، أن يردّ قائلًا: الإمام الباقر (ع) أمرني بذلك.
وهنا أشير إلى احتمال أن مثل هذه المجادلات من زرارة تعود إلى أن بعض الأصحاب كانوا يرون أن هذه المجالس مناسبة لطرح الأسئلة والشبهات والإشكالات، حتى في المسائل الفقهية والمعرفية. أي إنهم، مع إيمانهم بمقامات الأئمة (ع) العلمية ومراتب عصمتهم، لم يكونوا يرون في ذلك مانعًا من عرض أسئلتهم، لأنه لم يكن هناك سبيل غير هذا، وكان الطريق الطبيعي هو طرح الإشكالات، بل إن الأئمة (عليهم السلام) كانوا هم أنفسهم يهيّئون هذا المجال ويرحبون به، ويجيبون على الإشكالات والشبهات، ولم يكن في أقوالهم أو أجوبتهم حدّة أو عنف، ولم يطردوا أحدًا.
بلهاء
على أية حال، لم يُصرّح الإمام (ع) مجددًا في جوابه لزرارة بأن عليه أن يتزوّج، بل قال: «إن كنت فاعلًا فعليك بالبلهاء من النساء»؛ أي إذا أردت الزواج، فتزوّج من امرأة فيها نوع من البساطة الفكرية، حتى لا تُسبّب لك مشكلات مستقبلًا بسبب هذه القناعات التي تحملها.
كما ورد في رواية ينقلها الكليني عن إحدى زوجات الإمام الباقر (ع)، أنه تبيّن بعد الزواج أنها تُبغض أمير المؤمنين عليًّا (ع)، ومن الطبيعي أن وجود امرأة تُعاديه في بيت الإمام الباقر (ع) أمر لا يُحتمل، فناقشها الإمام (ع) طوال الليل محاولًا إقناعها بأن تكف عن العداوة والبغضاء، أي إنه وإن لم تُصبح شيعية، فعلى الأقل لا تُعادي. لكنها لم تقبل، فلم يرَ الإمام (ع) مفرًّا من طلاقها.
وفي رواية أخرى ورد أن الإمام (ع) مرّ بأيام صعبة بسبب الحزن على فراق زوجته التي يُقال إنها من قبيلة بني ثقيف، وبعد مدة، رآه أحد أصحابه وقد نحل جسمه وسأله هل أنت مريض؟ فأشار الإمام (ع) إلى موضوع فراق زوجته، ومن المحتمل أن المقصود هو تلك المرأة التي ذُكر أنها كانت تُعادي عليًّا (ع). أي إن الإمام (ع)، بسبب عاطفته وإنسانيته ورقّته، تأثّر بفراق امرأة عاش معها فترة، ولكنه اضطرّ للطلاق مراعاةً لمقام الإمامة، ومع ذلك، كان الحزن على هذا الأمر سببًا في نحوله.
ولعلّ الإمام (ع) أراد، كي لا يواجه زرارة مثل هذه المشكلات، أن يقترح عليه الزواج من فتاة أو امرأة تُعدّ من المستضعفات فكريًا وعقائديًا، ومن المعذورات، كي لا يتسبّب له ذلك بمشكلات لاحقًا، أي من لا يكون لها موقع فكري يجعلها تنتقد معتقدات زرارة أو عمله أو علاقاته.
وقد استخدم الإمام (ع) في الإشارة إلى هذه الفئة تعبير «بلهاء»، في إشارة إلى هذه البساطة الذهنية والفكرية، لكن زرارة سأله: ما المقصود بـ«بلهاء»؟ فأوضح الإمام: النساء والفتيات العفيفات اللواتي يلتزمن البيوت: «ذوات الخدور العفائف»، أي اللواتي هنّ بعيدات عن العلاقات الخارجية، والنقاشات الكلامية، وتعدّد الأقوال والمذاهب الكلامية والفقهية، وهنّ نساء عفيفات يمكثن في البيوت، وأفقهن الذهني يدور في إطار حياتهن الفردية والعائلية فقط
الخلافات الفكرية والعقدية
يعني زرارة، الذي يحمل هذا القدر من الحساسية ويُصِرّ على مواقفه الفكرية بهذا الشكل ولا ينسجم فكريًا مع الآخرين ولا يستطيع التقبّل، فإن الطريق السهل له هو أن يتزوّج من نساء لا يعشن أصلًا في عالم الخلافات الفكرية والعقدية، وهنّ بطبيعة الحال لا يُصررن على عقيدة خاصة بهن؛ نساء يمكثن في البيوت وعفيفات، وعلاقاتهنّ الاجتماعية محدودة من هذه الناحية.
لكن زرارة لم يتوقف، وأشار إلى بعض المدارس الفكرية في تلك الفترة، فقال: من أولئك النسوة؟ هل من النساء اللواتي على دين سالم بن أبي حفصة؟ الذي كان تيارًا فكريًا في ذلك الزمان. فقال الإمام: لا! فقال زرارة: هل امرأة يكون أساس فكرها مبنيًا على أفكار ومباني «ربيعة الرأي»؟ (وكان زرارة نفسه يحمل مثل هذا الفكر من قبل). فقال الإمام: لا! بل من النساء ربات البيت اللواتي لا يحملن نصبًا وعداءً (لأهل البيت (ع))، ولا يعرفن ما تعرفونه من المعرفة والعقيدة: «قال: لا، ولکنّ العواتق اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما تعرفون».
في الحقيقة، إن منشأ هذه الشدة والمجادلة من زرارة مع الإمام (ع) والتي ظهرت في مسألة زواجه، نابعة من هذا التصوّر نفسه بأن الناس إما مؤمنون أو كفار، وهو ما ناقشناه سابقًا بتفصيل حيث استشهد الإمام (ع) بآيات من القرآن وذكر أصنافًا من الناس المعذورين، وقد جاء هذا في سياق نفس هذا النقاش حول الزواج. ومن هذا المنظور، ورغم إرشاد الإمام الباقر (ع) له بالزواج من امرأة بهذه الصفات، عاد زرارة وقال: هذه المرأة التي تنصحني بالزواج منها لا تخرج عن حالتين: إما أن تكون مؤمنة أو كافرة. فإن كانت مؤمنة: «وهل تعدو إلا أن تكون مؤمنة أو كافرة؟» أي: إن كانت مؤمنة، فتأذن لي بأن أتزوّج مؤمنة، وإن كانت كافرة، فكيف لي أن أتزوّجها؟!
زرارة عاد مرة أخرى إلى تقسيم الناس إلى فئتين، لا إلى التقسيم الثلاثي الذي ورد في الروايات السابقة، والذي أوضحناه في بداية هذا الحديث انطلاقًا من سورة الفاتحة. وأما جواب الإمام الباقر (ع) رغم إصرار زرارة المتكرر، فقد جاء في تتمة الحديث وسنورد ذلك في القسم القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر
الكاتب:Shafaqna1
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2025-03-17 03:36:24
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي