لماذا تتطلع أميركا الآن إلى الدبلوماسية بين كييف وموسكو؟
تحديات عسكرية ونقص في الأسلحة والذخيرة وضغوط داخلية وخارجية على بايدن
طارق الشامي / صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
أدى التصريح الذي أدلى بها الأسبوع الماضي مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، بأن فوز أوكرانيا قد لا يتحقق عسكرياً، وأن الشتاء قد يوفر فرصة لبدء مفاوضات مع روسيا، إلى إثارة غضب الأوكرانيين، خصوصاً أنه جاء بعد أيام من زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان لكييف مقترحاً أفكاراً مشابهة. فما السبب وراء تحول الموقف الأميركي الآن؟ وهل يعود ذلك لعوامل داخلية أم دولية؟ وما احتمالات قبول أوكرانيا للضغوط الأميركية؟
ملامح التحول
منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ظلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف “الناتو” يتعهدون بمواصلة دعم أوكرانيا، لكن كبار المسؤولين في واشنطن بدأوا يتساءلون بصوت عالٍ عن مدى إمكانية كسب أي من الجانبين مزيداً من الأراضي، وبأي تكلفة، على رغم أن بعض المسؤولين الأوروبيين كانوا أكثر تفاؤلاً بشأن فرص أوكرانيا في النصر.
وخلال الأيام الماضية، بدا التحول في الموقف الأميركي واضحاً للجميع، إذ بدأ كبار المسؤولين الأميركيين في دفع كييف لبدء التفكير في محادثات السلام، بعد استعادة أوكرانيا السيطرة على خيرسون في أحد أكثر انتصاراتها المذهلة في الحرب. وبينما أوضح الجنرال ميلي، وهو أعلى رتبة عسكرية في الجيش الأميركي، ضرورة اعتراف الجانبين بأن النصر العسكري، بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا يمكن تحقيقه من خلال الوسائل العسكرية، وأن هناك حاجة إلى وسائل أخرى، اقترح الرئيس جو بايدن أن الوقت قد يكون مناسباً قريباً للتفاوض على رغم أنه نفى ممارسة أي ضغط على كييف، كما نقل مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، رسالة إلى الرئيس فولوديمير زيلينسكي ومساعديه في كييف في الرابع من الشهر الحالي، بأن أوكرانيا يجب أن تبدو منفتحة على حل تفاوضي.
هل الدبلوماسية وشيكة؟
ومع ذلك، لا تبدو واشنطن في عجلة من أمرها كما تقول صحيفة “وول ستريت جورنال”، إذ لا يعتقد المسؤولون الأميركيون أن الوقت الحالي هو الوقت المناسب، لأن الأسابيع والأشهر المقبلة توفر فرصة للبحث في محادثات، حيث أشار سوليفان إلى أن مهمة واشنطن هي أن تجعل الأوكرانيين في أفضل وضع في ساحة المعركة، بالتالي يصبحون في أفضل وضع على طاولة المفاوضات عندما تكون هناك فرصة للدبلوماسية.
ووفقاً لموقع “بوليتيكو”، فإن كبار المسؤولين الأميركيين يخبرون نظراءهم في أوكرانيا، أن توقف القتال المتوقع خلال فصل الشتاء، لا يعني أن المحادثات يجب أن تكون وشيكة، وأن واشنطن ستستمر في دعم كييف عسكرياً، وهي تطلق المرحلة التالية من التقدم في ساحة المعركة. كما سارعت الولايات المتحدة إلى السيطرة على الأضرار عبر طمأنة أوكرانيا بعد تعليقات ميلي حول المفاوضات والتي أغضبت المسؤولين الأوكرانيين، والتأكيد على أن واشنطن لم تقوض هدف كييف المتمثل في طرد الروس.
ومع ذلك، فقد عكست المكالمات والاجتماعات مع الأوكرانيين، مدى قلق الإدارة الأميركية بشأن تقديم جبهة موحدة بشأن أوكرانيا ومحادثات السلام المحتملة، لأن أي انقسام عام مطول بين كبار المسؤولين الأميركيين يمكن أن يهدد العلاقة الحساسة بالفعل بين واشنطن وكييف في لحظة حاسمة من الحرب.
ولهذا كشفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، أن بعض العقوبات على روسيا يمكن أن تظل سارية حتى بعد أي اتفاق سلام نهائي مع أوكرانيا، وأن أي اتفاق سيتضمن مراجعة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على الاقتصاد الروسي، ما يزيد من احتمالية بذل جهد أميركي طويل الأمد للضغط على الاقتصاد الروسي.
لكن يظل السؤال المطروح بقوة، هو لماذا تغير الموقف الأميركي هذا الشهر؟ وما أكثر الأسباب التي دفعت الإدارة الأميركية إلى اتخاذ موقف مخالف لما كانت تتحدث عنه منذ بدء الهجوم الروسي قبل تسعة أشهر؟
تحديات عسكرية
يعتقد كبار المسؤولين العسكريين أن أوكرانيا ستواجه تحدياً لطرد القوات الروسية من جميع المناطق التي سيطرت عليها في شرق البلاد وجنوبها، وهو هدف كييف النهائي المعلن. وينطبق هذا بشكل خاص على شبه جزيرة القرم، التي تسيطر عليها روسيا منذ عام 2014. ولهذا بدأت وزارة الخارجية الأميركية في وضع الأساس لمحادثات سلام نهائية بين أوكرانيا وروسيا على رغم أنها لن تشارك في مثل هذه المحادثات إلا جنباً إلى جنب، وبالتشاور الكامل مع شركائها في كييف، وفقاً لما كشف عنه مسؤول أميركي لموقع “بوليتيكو”.
وأشار مسؤولو وزارة الدفاع إلى أن منطقة خيرسون هي مثال على القتال العنيف الذي ينتظر أي معركة عسكرية مقبلة، حيث سيكون القتال عبر نهر دنيبرو لمحاولة استعادة الأراضي على الضفة المقابلة مناورة عسكرية صعبة.
ومع ذلك اختلف بعض الخبراء العسكريين مع تقييم رئيس الأركان الأميركي ميلي، إذ قال الجنرال المتقاعد بن هودجز، القائد السابق للجيش الأميركي في أوروبا، إن الطقس الشتوي سيؤدي إلى تباطؤ القتال لكنه لن يوقفه، وستواصل القوات الأوكرانية الضغط على القوات الروسية سيئة التجهيز. وتوقع هودجز أن تكون القوات الأوكرانية مع بداية العام المقبل، في وضع يمكنها من بدء تقدم نحو شبه جزيرة القرم، حيث يتوقع أنها ستطرد جميع القوات الروسية من أراضيها بحلول الصيف.
مشكلة الأسلحة والذخيرة
وعلاوة على ذلك، تشعر الولايات المتحدة وبعض حلفائها بالقلق من أن مخزوناتها من الأسلحة، بما في ذلك بعض الذخيرة، يتم استنفادها بمعدل لا يمكن تحمله. فقد فاق الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا هذا العام، والذي يقترب الآن من 19 مليار دولار، بكثير المساعدات الأوروبية. كما أوضح مسؤول غربي أن هناك مشكلات حقيقية وعملية في إحراز تقدم عسكري على الأرض، بينما هناك نقص في الذخيرة، ولهذا تحتاج إدارة بايدن إلى تخفيف التوترات لأنها توازن بين دعمها لأوكرانيا والمخاوف من انخفاض المخزونات الغربية من المعدات العسكرية.
ويسارع المسؤولون العسكريون الغربيون إلى اكتشاف طرق جديدة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاجها، لا سيما الذخيرة والدفاعات الجوية لحماية البنية التحتية المدنية، مع انخفاض المخزونات. وأعلنت الولايات المتحدة أنها ستزود أوكرانيا بأربعة أنظمة دفاع جوي من طراز “أفينجر”، وهو سلاح متنقل قصير المدى استخدم في حرب العراق، إلى جانب دفع تكاليف تجديد صواريخ “هوك” القديمة ودبابات الحقبة السوفياتية من جمهورية التشيك، كما ستشتري وزارة الدفاع الأميركية ذخيرة من كوريا الجنوبية لنقلها إلى أوكرانيا.
وهناك أيضاً قلق واسع النطاق في كييف من أن مجلس النواب الأميركي الجديد الذي يقوده الجمهوريون، سيعني مساعدة أقل لكييف على رغم إعلان بايدن ثقته في استمرار تدفق المساعدات حتى مع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب.
الهاجس النووي
غير أن هزيمة روسيا في ساحة المعركة بالأسلحة التقليدية قد تدفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى استخدام أسلحة نووية أو على الأقل قنبلة قذرة تطلق إشعاعات قاتلة، وإلصاق التهمة بأوكرانيا، كما حذرت وسائل إعلام روسية من قبل. وهو ما يثير مخاوف الولايات المتحدة التي أرسلت مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، للقاء نظيره الروسي في تركيا يوم الاثنين الماضي، وهو ما أوضح المتحدث باسم البيت الأبيض على أن الاجتماع كان لأغراض غير دبلوماسية، وأن بيرنز لا يناقش تسوية الحرب في أوكرانيا، وإنما ينقل رسالة بشأن عواقب استخدام روسيا للأسلحة النووية ومخاطر التصعيد على الاستقرار الاستراتيجي.
وتتسق المخاوف الأميركية مع ما صرح به ميلي ومسؤولون آخرون في البنتاغون من أن طرد الروس سيكون مكلفاً للغاية وصعباً، من حيث الموارد والأرواح، فيما كررت تعليقات مسؤولين عسكريين إحساساً واسعاً داخل وزارة الدفاع بأن الشتاء المقبل يوفر فرصة لمناقشة التوصل إلى تسوية سياسية لإنهاء الحرب.
ضغوط داخلية
لكن الضغوط الداخلية على الإدارة الأميركية تلعب دوراً حاسماً، فقد أدى ارتفاع التضخم المرتبط جزئياً بالحرب إلى تفاقم الرياح الشديدة ضد الرئيس بايدن، وأثار تساؤلات جديدة حول مستقبل المساعدة الأمنية الأميركية لأوكرانيا، والتي بلغت 18.2 مليار دولار منذ بدء الحرب. ووفقاً لاستطلاع نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل الانتخابات النصفية، قال 48 في المئة من الجمهوريين إن الولايات المتحدة تفعل الكثير لدعم أوكرانيا، وهو مستوى قفز بشدة من 6 في المئة في مارس (آذار) الماضي.
وحتى داخل الحزب الديمقراطي نفسه، طالب التقدميون باللجوء إلى الدبلوماسية لتجنب حرب طويلة الأمد في أوكرانيا، وأرسلوا خطاباً يدعو بايدن إلى مضاعفة جهوده للبحث عما وصفوه بـ”إطار واقعي” لوقف القتال، قبل أن يتراجعوا عنه لاحقاً.
تصاعد المخاوف الدولية
وأدت التصريحات المتشددة من موسكو وكييف إلى زيادة المخاوف العالمية من صراع طويل الأمد. فقد أدت الحرب إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية العالمية، ما ساعد على ارتفاع أسعار الطاقة للمستهلكين الأوروبيين، وتسبب في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، الذي أدى إلى تفاقم الجوع في دول مثل الصومال وأفغانستان.
وتبرز المخاوف بشأن صراع أطول بشكل خاص في الدول التي كانت مترددة بالفعل في إلقاء ثقلها وراء التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا، إما بسبب العلاقات مع موسكو أو بسبب الامتناع عن مساندة واشنطن، حيث امتنعت جنوب أفريقيا عن التصويت الأخير في الأمم المتحدة الذي دان قرارات الضم الروسية، قائلة إن العالم يجب أن يركز بدلاً من ذلك على تسهيل وقف إطلاق النار والقرار السياسي.
كما أعلن الرئيس البرازيلي المنتخب الجديد، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، أن زيلينسكي مسؤول عن الحرب مثل بوتين، وعرض رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي حاول الحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو وكييف، المساعدة في محادثات السلام في مكالمة مع زيلينسكي الشهر الماضي، رفضها الزعيم الأوكراني.
بارقة أمل
لكن على رغم تأكيد زيلينسكي أن أوكرانيا لن تجري أي مفاوضات مع بوتين، لكنه قال إن بلاده ملتزمة بالتسوية السلمية من خلال الحوار، مشيراً إلى أن روسيا قوضت عمداً جهود الحوار.
وعلى رغم رفض القادة الأوكرانيين التحدث إلى بوتين وتعهدهم بالقتال لاستعادة السيطرة على أوكرانيا بأكملها، يقول المسؤولون في واشنطن إنهم يعتقدون أن زيلينسكي سيؤيد على الأرجح المفاوضات ويقبل التنازلات في نهاية المطاف. كما يعتقدون أن كييف تحاول تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب العسكرية قبل حلول فصل الشتاء، حيث قد تكون هناك فرصة للدبلوماسية.
لكن زيلينسكي يواجه التحدي المتمثل في كيفية إقناع شعب عانى بشدة على أيدي الروس بالتوصل إلى سلام، بعدما أصبح هو نفسه رمزاً للتحدي الذي حفز القوات الأوكرانية في ساحة المعركة. كما يواجه في الوقت نفسه تحدى الجمهور الأجنبي الذي يزود قواته بالأسلحة التي يحتاجونها للقتال.
خطر القرم
ومع كل ذلك، تثير التقارير عن انسحاب روسي من مدينة خيرسون الجنوبية التساؤل حول ما إذا كان بإمكان القوات الأوكرانية أن تسير في نهاية المطاف نحو شبه جزيرة القرم الاستراتيجية، والتي يعتقد مسؤولو الولايات المتحدة وحلف “الناتو” أن بوتين ينظر إليها بشكل مختلف عن المناطق الأخرى في أوكرانيا الخاضعة للسيطرة الروسية، ليس فقط لأن القرم كانت تحت السيطرة الروسية المباشرة لفترة أطول من المناطق التي تمت السيطرة عليها منذ فبراير الماضي، ولكنها لأنها كانت منذ فترة طويلة موقعاً لقاعدة بحرية روسية، وهي موطن للعديد من الأفراد العسكريين الروس المتقاعدين.
ويوضح الكرملين مدى أهمية شبه جزيرة القرم لروسيا، ورد على تفجير جسر يربط المنطقة بالبر الرئيسي لروسيا بإطلاق وابل من الصواريخ على المدن الأوكرانية، بما في ذلك كييف، منهية فترة طويلة من السلام في العاصمة، ما يعني أن رفض دعوات التفاوض للتوصل إلى سلام والإصرار على استكمال الهجوم على القرم، سيفجر قتالاً ومخاطر لم تشهدها الحرب من قبل.