تحقيقات - ملفات

التطبيع اللبناني

 

محمد قواص* -أساس ميديا

في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب روّجت الإدارة الأميركية لِما سُمّي “صفقة القرن” لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. واشتغل صهر ترامب ومستشاره، جاريد كوشنر، وفريقه على التسويق لها لدى الطرفين المباشرَين كما لدى الأطراف الإقليمية والدولية المعنيّة بتسوية تقوم على نظرية “السلام الاقتصادي”. وحين قدّم كوشنر خرائطه التفتيتيّة الشهيرة أوائل عام 2020، أهملت الأطراف الخرائط وبقيت فكرة “السلام الاقتصادي” قيد التداول.

السلام الاقتصادي

لم تعِرْ إدارة الرئيس الديمقراطي الحالي، جو بايدن، ملفّ هذا الصراع كثير اهتمام، ربّما لأنّ تجارب الإدارات أثبتت عقم التورّط في أيّ مساعٍ في ظلّ نزوع المجتمع الإسرائيلي إلى التطرّف وقيادة اليمين وأقصى اليمين لحكومات إسرائيل، وبالتالي استحالة إنتاج حلّ سياسي يقوم على المفاوضات. لكنّ بايدن الذي افتعل زيارة لإسرائيل والأراضي الفلسطينية في تموز الماضي لم يتجاوز في ما حمله حدود “السلام الاقتصادي”.

وإذا ما تأمّلنا جيّداً الاتفاقات الإبراهيمية التي عُقدت بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان تباعاً منذ صيف 2020، فإنّها على الرغم من إثارتها للجدل لم ترقَ إلى مستوى سياسي أرفع عمليّاً ممّا حقّقته اتفاقات كامب ديفيد مع مصر عام 1978 ووادي عربة مع الأردن عام 1994 من حيث تواضع وضمور المستوى السياسي، واقتصار العلاقات عمليّاً على تفاهمات أمنيّة إدارية شكليّة في طابعها السياسي، فيما قامت كلّ هذه الصفقات على قاعدة “السلام الاقتصادي”.

أدركت واشنطن أنّ الأطراف العربية جميعها لن تذهب بعيداً في تفاهماتها مع إسرائيل ولن تنتقل إلى المستوى السياسي  قبل التوصّل إلى تسوية سياسية لحلّ الصراع مع الفلسطينيين. وليس مفاجئاً أنّ طرفَيْ كامب ديفيد ووادي عربة وأطراف الاتفاقات الإبراهيمية ما برحت في كلّ مناسبة تذكّر بتمسّكها بالمبادرة العربية التي صدّقت عليها القمّة العربية في بيروت عام 2002، والتي تقوم على مبدأ “الأرض مقابل السلام”. وما دام الأمر لم يحصل، فإنّ كلّ أشكال التطبيع لن تصل إلى مستواها الرفيع وستبقى محصورة بدرجات مختلفة بأنواع من “السلام الاقتصادي”.

ما لإسرائيل لإسرائيل وما للبنان هو للبنان وإسرائيل

لا يختلف لبنان في مقاربته لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل عن هذه الروحيّة وهذه القواعد. يُبرم لبنان اتفاقاً تمّ التفاوض بشأنه مع دولة إسرائيل المعترَف بها دوليّاً والمعترَف بها عربيّاً والمعترَف بها لبنانيّاً بالذات منذ أن كانت بيروت جزءاً من التحوّلات العربية، سواء في مؤتمر مدريد عام 1991 أو في المبادرة العربية التي تعترف بإسرائيل دولة طبيعية في المنطقة وتشترط للتطبيع السياسي الكامل معها الموافقة على حلّ يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. ولم يوافق لبنان الذي كان يخضع لوصاية دمشق حينها على المبادرة العربية فقط، بل إنّ هذه المبادرة العربية وقعت في عاصمته أيضاً.

يمارس لبنان، من خلال اتفاقية الترسيم، وفق أبجديّاته، شكلاً جديداً من أشكال التطبيع مع إسرائيل يقوم على قاعدة “السلام الاقتصادي”. اتّفق الطرفان على صفقة تنظّم اقتسام المساحات البحريّة واقتسام موارد الطاقة التي تحتويها “حقوق” الطرفين في منطقتهما الاقتصادية الحدودية الخالصة. أكثر من ذلك، استغنى لبنان مقابل هذا الاتفاق عن مطالبته بالخطّ 29، وبالتالي تخلّى عن 1,430 كيلومتراً كان المفاوض اللبناني قد فاجأ اللبنانيين قبل الأميركيين والإسرائيليين بحقّ لبنان بالسيادة عليها. ذهب لبنان إلى توقيع القبول باتفاق يقوم على معادلة قوامها: “ما لإسرائيل لإسرائيل وما للبنان هو للبنان وإسرائيل”.

هو تطبيع مهما حاولت حناجر الممانعين وأقلام الثورجيّين بيعه للعوامّ والخواصّ. حتى ديباجة أن تتولى شركة توتال الفرنسية دفع حصّة إسرائيل من حقل قانا اللبناني من أرباحها هي فتوى لا تنفي حقيقة أنّ إسرائيل شريكة في هذا الحقل اللبناني حتى آخر عبق غاز يخرج منه. ولئن لم تمنع كلّ الاتفاقات العربية مع إسرائيل منذ كامب ديفيد حتى تلك الإبراهيمية من تدهور العلاقات وسحب السفراء وتبادل الانتقادات مع إسرائيل، فإنّ التطبيع المفترَض بين لبنان وإسرائيل سيمنع الحرب في ميادين تشتغل على استخراج المليارات من حقول النفط، لكنّه لن يمنع تبادل اللكمات السياسية والدبلوماسية وربّما بمستويات أقلّ من تلك القطيعة بين عمّان وتل أبيب وما وصلت إليه علاقات الأردن وإسرائيل في مرحلة سابقة على سبيل المثال.

غاز لبنان وإسرائيل في أنابيب مشتركة

ولِمَن فاتته تفاصيل السوق، فإنّ إسرائيل هي جزء من منتدى غاز شرق المتوسط (أُسّس في القاهرة في كانون الثاني 2019 وأصبح في آذار 2021 منظمة حكومية دولية) الذي يجمعها مع سبع دول معنيّة ومطلّة على حقول الغاز في مياه شرق المتوسط. والمنظمة آيلة إلى تمدّد كلّما تقدّمت التفاهمات وتطوّرت الاتفاقات بين الدول. لكن أكثر من ذلك، تقوم قاعدة المنتدى على اتفاقات ثنائية وجماعيّة أُبرِمت لإخضاع تسويق الغاز لشبكة موحّدة لتصدير الغاز، وخصوصاً إلى أوروبا. هذا يعني أنّ غاز لبنان الذي سيُنتج بعد سنوات سيتعايش مع الغاز الإسرائيلي داخل أنابيب يمتدّ بعضها من إسرائيل مباشرة.

ليس في الأمر مهانة، بل واقعية وجب على النخب السياسية اللبنانية جميعها أن تقرّ بها علناً وبكلّ شفافية في توجّهها إلى الرأي العام اللبناني، والكفّ عن بيع أبجديّات كاذبة.

ذهبَ لبنان الذي يتحكّم الحزب الممانع بجانب وازن من قراره وتُمسكُ بأوراقه إيران الواعدة بتدمير إسرائيل ورميها في البحر إلى اتفاق تطبيع يقوم على “السلام الاقتصادي”. ولئن كان إنجازاً مهمّاً إغلاق هذا الملفّ وإنهاء مسلسل المفاوضات العقيمة التي أخّرت لبنان كثيراً عن الالتحاق بقطار الطاقة في المتوسط، فإنّ على البلد أن يدرك أنّه انتقل إلى طور آخر سيُسقط مفردات ومفاهيم ومزاعم وادّعاءات، ويفرض تحالفات واصطفافات وتموضعات تأخذ بكامل الاعتبار واقع ذلك “السلام الاقتصادي” المقبل.

ألم يقُل قائل في كانون الأول 2017 على قناة تلفزيونية قريبة من الحزب وطهران إنّه “ليس لدينا صراع أيديولوجي مع إسرائيل”؟ يتّضح من هذا الفريق أنّ بينه وبين إسرائيل “بزنس” وأخواته.

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى