الثورة طلّقت طرابلس بالثلاث
سامر زريق -أساس ميديا
تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.
في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. هنا حلقة ثانية عن طرابلس… كيف ولماذا طلّقت “عروس الثورة” هذا الحلم، بالثلاثة؟
من يطّلع على أحوال مدينة طرابلس، ويتابع ما يحدث فيها، لا يستطيع التصديق أنّها المدينة نفسها التي أُطلق عليها لقب “عروس الثورة” منذ ثلاث سنوات فقط. ومع أنّ هذه المدّة ليست بالزمن الطويل، إلّا أنّ ما عاشته عاصمة الشمال خلال هذه السنوات الثلاث العجاف من نوازل ومصائب جعلها تشيخ بسرعة قياسية. هي عروس تطلّقت في شهر عسلها الثوري، لا بطلقة واحدة بل بثلاث: الأولى من الدولة، والثانية من النُخب والثوّار، والثالثة من أهلها وناسها، فأصبحت الثورة نسياً منسيّاً.
المؤسف أنّه عندما خبا وهج 17 تشرين، وكادت شعلتها تنطفئ إثر تكليف “الثائر” حسّان دياب رئاسة حكومة لبنان، أخذت طرابلس المبادرة وحدها، وحملت مشعل الثورة، واستنهضت همَم المناطق الأخرى التي انصرف بعضٌ من ثوّارها إلى أحلام الوزارة وهيلمان السلطة، فصارت وقتئذٍ عاصمة الثورة وملتقى الثائرين والثائرات.
لكنْ ما إنْ أبرزت الدولة أنيابها لها حتّى تخلّى عنها الجميع، وتنكّر لها الأقربون والأبعدون، وتركوها وحدها تواجه قدرها الذي رسمه لها مَن بيده الحلّ والعقد. فعادت هويّة الإرهاب تطلّ برأسها من جديد، معزَّزة هذه المرّة بظاهرة لم تعرفها قبلاً، وهي قوارب الهجرة وقوافل الهاربين من شبح الموت الذي يخيّم في دروبها وأزقّتها.
الأجهزة تكتب فصل “الثورة”
لو سُئل أيّ طرابلسيّ في 16 تشرين الأول 2019 عن إمكانية حدوث ثورة في طرابلس لكان ضحك حتّى بانت نواجذه، وربّما اتّهم السائل بالختل. لكنْ ما كادت شرارة الثورة تشتعل غداة قرار الستّة سنتات إيّاه، حتّى فاجأت الفيحاء نفسها، وتمرّدت على يوميّاتها الكئيبة وزعاماتها البائسة.
مع ذلك، كان جميع أبناء المدينة، أو على الأقلّ أغلبهم، يدركون أنّ السلطة لن تتركهم وشأنهم، لكنّهم كانوا يحاولون تسطير نهاية لـ”رواية” السلطة ولعبة أجهزة أمنها القابضة على قرار المدينة الفعليّ منذ أمدٍ بعيد. بيد أنّ ما حصل فعليّاً كان خروجاً عن النصّ لا أكثر. ذاك أنّ الأجهزة الأمنيّة استغلّت “17 تشرين” لصياغة فصل جديد في “الرواية” عينها عنوانه “الثورة”، إنّما ثورة على طريقتها الخاصة.
منذ البداية سيطرت تلك الأجهزة على منبر الثورة، وتحكّمت بمَن يصعد إليه وبماذا يُقال عليه. ثمّ عوضاً عن قادة المحاور وزُمر السياسيّين، أنشأت الأجهزة إيّاها تشكيلات جديدة حملت ألقاباً ثوريّة، وأطلقتها في شوارع المدينة لتنفيذ أجنداتها.
إقفال الطرقات، ولا سيّما مداخل المدينة، كان بقرار منها وتحت رعايتها، وكذلك أيضاً “خيمة الثورة” التي وُضعت أمام بعض مؤسّسات الدولة.
لم تنجح الأجهزة الأمنيّة عبر ثوّارها في تفريغ ساحة النور من روّادها وحسب، بل أسوأ من ذلك، أذكت مشاعر الحقد والكراهية ضدّ “17 تشرين” وكلّ ما يمتّ إليها بصلة، وحمّلتها كلّ موبقات الأزمة.
الأمن: الضربة القاضية
عندما أرادت توجيه الضربة القاضية لفكرة الثورة تماماً على طريقة الملاكمين، أطلقت الغوغاء وأمرتهم بإحراق رموز الشرعية في المدينة، من القصر البلدي إلى السراي والمحكمة الشرعية. وكان مطلوباً منهم أنْ يتوسّعوا أكثر نحو الجامعات والمؤسّسات الخاصّة ليجعلوا من طرابلس مدينة الخرائب، لولا مسارعة بعض السياسيّين والزعماء إلى الوقوف في وجههم بعدما استشعروا خطراً على مؤسّساتهم وحتّى على أنفسهم.
إضافة إلى ما سلف، لم يختَر تنظيم داعش من بين كلّ المدن العربية والإسلامية سوى مدينة طرابلس كي يقوم باستيراد وتصدير المقاتلين منها وإليها، لسبب لا يعلمه بعد الله سوى الأجهزة الأمنيّة.
فعليّاً، ليس مقدّراً لطرابلس، بمداها الحيوي الذي يصل إلى الحدود مع سوريا، وإلى قمم جبال الضنّية، أنْ تتمرّد على التهميش المزمن الذي تعاني منه منذ قيامة لبنان الكبير.
هي المنطقة “الخزّان” فقط، خزّان الناخبين، خزّان الجيش، خزّان عمّال وحجّاب المؤسّسات العامّة والخاصّة، وحتّى خزّان داعش وأخواتها، وأخيراً خزّان قوافل الهجرة في قوارب الموت التي تمتلىء بالنساء والأطفال والرجال، وتنتهي في القعر أمام شواطىء لبنان أو سوريا أو اليونان… لكنْ ليس لها أنْ تكون يوماً “شريكاً” في القرار الوطني.
نُخب “المصالح”
تعي كلّ النخب الطرابلسية تماماً ما سلف ذكره، وتتحدّث فيه وعنه صُبح مساء. مع ذلك، فهي تمتنع عن مواجهة هذا الواقع المرير المفروض قسراً، لأسباب واهية يغلب عليها انقسام هذه النخب الذي يبلغ حتّى جنس الملائكة. نخب متفرّقة لا تجتمع إلّا على مصلحة، ولا تتفرّق إلّا للسبب نفسه. لذا لم تكن قوى التخريب من جماعات الأجهزة لتتمادى في فسادها وتخريبها وتتمكّن من تسيّد الشارع الثوري لولا انكفاء النخب نحو مصالحها الضيّقة. فقد انغمست الأخيرة تماماً في لعبة السلطة والتمثيل، وتركت الشارع على الرغم ممّا يشكّله من قوّة ضغط وتفويض جماهيري يندر الحصول على مثيله.
مع اقتراب الانتخابات النيابية ازدادت الانقسامات حدّة بين المجموعات التغييرية التي تُعتبر لسان حال أغلب نخب المدينة. ولم تنجح كلّ الاجتماعات في تقريب المسافات وخفض سقف الطموحات لدى البعض. على الرغم من ذلك، استطاعت لائحة “انتفض.. للسيادة للعدالة” الممثّلة الأبرز لقوى التغيير، أنْ تنتزع من براثن ما يسمّونه “المنظومة” مقعداً نيابيّاً آل إلى الدكتور رامي فنج. وهو اليوم مهدّد بقبول الطعن المقدّم ضدّه من النائب السابق فيصل كرامي.
لكنْ بدل البناء على فوز فنج لتشكيل قوّة ضغط سياسي، اختفت قوى التغيير تماماً، وما خلا الاستنكار العابر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل أيّ مواطن عاديّ، لم يكن لنخب المدينة وتغييريّيها موقف من كلّ المصائب التي تتالت بعد الانتخابات وأكثرها قسوة قوارب موت المهاجرين المهجّرين.
حتّى عندما أرادت السلطة، وخاصّة الرئيس نجيب ميقاتي، خلع رئيس بلدية طرابلس رياض يمق لأنّه لم يلبِّ له أحدَ طلباته، لم تستغلّ قوى التغيير هذه الفرصة للوقوف مع يمق في وجه السلطة، بل تركته وحيداً، وهو ما سهّل “قبعه”.
هذا مثال واحد والأمثلة كثيرة.
طرابلس تنتخب ضدّ نفسها
الأسوأ ممّا سبق أنّ الطرابلسيّين كلّهم يبدون في حالة استسلام كاملة وتسليم بمشيئة السلطة وأجهزتها الأمنية. كانت أوضح صورة لها في الانتخابات التي يجب ألا يحجب الفوز الهزيل لقوى التغيير والمعارضة فيها، حجم المشاركة الهزيلة.
لم يُرِد الناخب الطرابلسيّ استغلال الفرصة لتحويل غضبه إلى صوت يصبّ ضدّ السلطة، بل فضّل الجلوس على حافة النهر. إذ سجّلت طرابلس على صعيد الوطن أدنى معدّل اقتراع بالكاد بلغ 22% قبل ساعتين من إقفال الصناديق، ثمّ لامس 28% بعد الإقفال. وهذه الزيادة مردّها أولئك الذين ينتخبون مقابل المال المتدفّق بغزارة. وحسب “الدولية للمعلومات”، سجّلت دائرة الشمال الثانية (طرابلس، المنية، الضنّية) أعلى نسبة تراجع في معدّل الاقتراع، وهي 22%.
وإذا ما اعتبرنا أنّ لائحتَيْ ميقاتي وكرامي تمثّلان قوى السلطة التقليدية، ولائحتَيْ ريفي وعلّوش تمثّلان القوى السيادية، وكلّ اللوائح الباقية تحمل راية التغيير، تكون الأخيرة قد حازت مجتمعة 5.45% من أصوات الناخبين فقط. أي أنّ “عروس الثورة” و”عاصمة الثورة” وكلّ هذه الألقاب المبهرجة، لم تُتَرجم ثوريتها إلّا بهذه النسبة المتدنّية. في حين نالت القوى التقليدية أكثر من الضعف بقليل (11.59%)، والسيادية 14.78% على صعيد كلّ دائرة الشمال الثانية.
بالتأكيد لم يحتجب الطرابلسيّون عن الانتخاب حزناً على انسحاب الرئيس سعد الحريري، أو لأنّ حفيد مؤقّتي المدينة في سالف الزمان (ميقاتي) قد نأى بجانبه عنها، بل لعدم اقتناعهم بجدوى المشاركة في الاقتراع، بل حتّى بفكرة التغيير برمّتها. وهذا ما نستطيع الاستدلال عليه بغير عناء من خلال غياب أيّ نشاط احتفالي لمناسبة الذكرى السنوية الثالثة لـ17 تشرين.
عمليّاً لم يبقَ من الثورة في طرابلس سوى ذكريات جميلة… “وتلك الأيّام نداولها بين الناس”.