موسكو | بتوقيعه اليوم على اتّفاقات ضمّ مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون إلى قِوام الاتّحاد الروسي، يفتتح فلاديمير بوتين صفحة جديدة في صراعه مع الغرب، تبدو مفتوحة على السيناريوات كافّة، بما فيها الانزلاق إلى حرب عالمية، بالأصالة هذه المرّة لا بالوكالة، لم تَعُد في حُكم المستحيلات. وفي انتظار ما سيحمله خطاب بوتين، والذي وُصف بـ«الهامّ»، يبدو أكيداً أن الحرب الروسية على أوكرانيا ستدْخل، ابتداءً من لحظة توقيع الاتّفاقات، مرحلة مغايرة لِما جرى منذ أواخر شباط الماضي، حيث سيتعاظم احتمال المواجهة المباشرة بين موسكو و«الناتو»، فيما يَظهر الحادث الخطير الذي شهده أخيراً بحر البلطيق، والمتمثّل في تسرّب الغاز من أربعة مواضع في خطّ أنابيب «نورد ستريم 1»، أشبه بجرس إنذار من دخول الصراع «المنطقة الحمراء»
تدْخل الأزمة الروسية – الأوكرانية، اليوم، منعطفاً جديداً، بعد أن يُوقّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على «اتّفاقات بشأن انضمام مناطق جديدة إلى كيان الاتحاد الروسي»، ويُتبِع ذلك بخطاب هامّ، وفق ما أعلن الكرملين. وأوضح المتحدّث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أن الاتفاقات ستُوقَّع «مع المناطق الأربع التي أجرت استفتاءات وتَقدّمت بمطالب بهذا الشأن إلى الجانب الروسي»، في إشارة إلى «جمهوريتَي» لوغانسك ودونيتسك ومقاطعتَي زابوروجيا وخيرسون، والتي طلب مسؤولوها، رسمياً، من بوتين، ضمّ مناطقهم إلى بلاده على أساس نتائج الاستفتاءات التي انتهت يوم الثلاثاء الماضي، وأظهرت، بحسب الأرقام الرسمية، تأييداً غالباً للانضمام. وفي انتظار ما سيحمله خطاب بوتين، فالمؤكّد أن طبيعة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستتغيّر كلّياً بدءاً من اليوم؛ إذ سابقاً، كانت موسكو تَعتبر أنها تساعد في حماية سكّان النواحي الأربع من «بطش» نظام كييف؛ أمّا اليوم، فستَعتبر نفسها في حالة دفاع عن أراضيها، مع ما يعنيه ذلك من تبعات على مستوى مواجهة أيّ استهداف أوكراني محتمَل للوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، إضافة إلى السيطرة على ما تَبقّى من أراضٍ في كلّ من تلك، خارجةً عن سيطرتها.
إذاً، «الحديث لم يَعُد يدور عن الصراع في أوكرانيا ولا عن عملية خاصة، إنّما عن صدام خطير تدور في مَجراه بوضوح حربٌ بالوكالة». هكذا، شخّص رئيس قسم الأمن الأوروبي في «معهد أوروبا» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»، دميتري دانيلوف، الوضع، موضحاً في تصريح إلى صحيفة «إكسبورت رو»، أن «الهدفَين الرئيسَين للعملية – تطهير أوكرانيا من النازية ونزع سلاحها – لن يتغيّرا، إلّا أنه كان من الواضح منذ البداية أن من المستحيل رسم أيّ حدود في مسرح العمليات. والآن – وهذا تغيير مهمّ – ستصبح الحملة العسكرية أكثر كثافة». ويبيّن دانيلوف أن «أفق العملية لم تَعُد له حدود جغرافية محدّدة، نتيجة الدعم العسكري والمالي المُقدَّم لكييف من حلف الناتو ودول أخرى»، مضيفاً أن «الأمر بات يتعلّق بحماية الحدود الجديدة لروسيا، حيث ستنشأ مشكلة أخرى تتعلّق بتحرير المناطق الروسية الجديدة، وسيَظهر سياق جديد تماماً ويتطلّب مقاربات مختلفة». ويؤكد الخبير أن «تحقيق أهداف العملية مستحيل من دون هزيمة عسكرية كاملة للنظام الأوكراني»، منبّهاً إلى أنه «في الوضع الحالي، تزداد مخاطر استخدام الأسلحة النووية، لأن تَحوّل الصراع إلى صراع إقليمي قد يؤدي إلى تهديدات أمنية جديدة».
وإذا كان أكيداً أن توقيع بوتين اليوم سيزيد الشرخ الآخذ في الاتّساع بين موسكو والاتحاد الأوروبي، الذي يتحضّر لفرض عقوبات جديدة على روسيا بسبب ضمّها المناطق الأربع، فإن التطوّر الأخطر على صعيد العلاقة بين الجانبَين، يتمثّل في «العمل التخريبي» الذي طاول خطَّي أنابيب «السيل الشمالي 1» و«السيل الشمالي 2». ووصف الكرملين ما حصل بأنه «عمل إرهابي لا يمكن أن يحدث من دون تَورّط بعض الدول»، واصفاً إيّاه، على لسان المتحدّث دمتري بيسكوف، بأنه «أمر خطير يتطلّب تحقيقاً عاجلاً، وتعاوُن عدد من الدول». وفيما نفى بيسكوف التسريبات الإعلامية الغربية حول وجود عسكريين روس في منطقة الحادث، لفت إلى أنه «تمّت ملاحظة وجود عسكريين من الناتو في المنطقة». وأشار إلى «رغبة عدد من الدول في إجراء اتّصالات معنا في مِثل هذه الشؤون الحسّاسة». بدورها، ذكرت المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن «حادثة تَسرّب الغاز وقعت في المنطقة التجارية والاقتصادية للدنمارك والسويد، والتي تسيطر عليها الاستخبارات الأميركية». وتُعدّ هذه المرّة الثانية التي تلمّح فيها زاخاروفا إلى دور أميركي في الحادث، بعد أن كانت قد طالبت الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالإجابة عمّا إذا كانت الولايات المتحدة قد نفّذت تهديدها بـ«التخلّص من السيل الشمالي 2»، في إشارة إلى مقطع فيديو سابق هدّد فيه بايدن بألّا يكون هناك هكذا خطّ، إذا ما «اعتدت روسيا على أوكرانيا». وإذ أبدت موسكو استعدادها للنظر في طلبات إجراء تحقيق مشترك في أسباب التسرّب، باشر الادّعاء العام الروسي إجراء تحقيق جنائي في ما جرى بوصْفه «عملاً إرهابياً دولياً». من جهته، وافق «الناتو» على أن الواقعة «ناجمة عن عمليات تخريبية»، فيما رصدت مراكز الزلازل في الدنمارك والسويد وألمانيا، وقوع انفجارات قوية في المناطق التي سُجّلت فيها تسريبات، الأمر الذي يرجّح فرضية العمل المتعمّد.
ويأتي الحادث بعدما أعلنت روسيا، سابقاً، تَوقّف ضخّ الغاز عبر «نورد ستريم 1» إلى أجل غير مسمّى بسبب الصيانة، ليضع ذلك أوروبا في موقف صعب قبيل حلول الشتاء، خاصة أن إصلاح خطَّي «السيل الشمالي 1» و«السيل الشمالي 2»، قد يستغرق أكثر من نصف عام، وفق ما أعلن رئيس لجنة الطاقة في مجلس الدوما الروسي، بافل زافالني، الأمر الذي سيحرم روسيا في المقابل من الدخْل المحتمَل من إمدادات الغاز لفترة غير محدّدة. وفي هذا الإطار، يسود اعتقاد لدى مجمع الخبراء الروس بأن لواشنطن مصلحة في تخريب خطوط أنابيب الغاز الروسية إلى أوروبا، والذي حذّر الكرملين من أنه يهدّد أمن الطاقة في القارة الأوروبية بأكملها. ويوضح الخبير في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية و«الصندوق الوطني لأمن الطاقة»، ستانيسلاف ميتراخوفيتش، في تصريح إلى صحيفة «إكسبرت رو»، أنه «من حيث التأثير في الإمدادات الأوروبية الحالية، لن يتغيّر شيء. لم يكن هناك تدفّق للغاز عبر كلا الأنبوبَين. ولكن ما حدث يمثّل تحدّياً للمستقبل». ويرى ميتراخوفيتش أن «تدمير البنية التحتية لنقل الغاز، والذي يلغي بالنتيجة إمكانية وصول إمدادات الوقود الروسي إلى أوروبا، ويعمّق حالة عدم اليقين في سوق الغاز في الأخيرة، يتوافق تماماً مع مصالح واشنطن الجيوسياسية والاقتصادية»، معتبراً أن المصلحة الأميركية تكمن في «أن لا يحاول الأوروبيون، وألمانيا بالدرجة الأولى، بسبب نقص الوقود في الشتاء البارد، تسوية العلاقات مع روسيا». وانطلاقاً من ذلك، يشدّد الخبير على ضرورة التحقيق في ما حدث، وتَذكّر حجر الزاوية في القانون الروماني: ابحث عن المستفيد». وفي الاتّجاه نفسه، يرى المدير العام لـ«المجلس الروسي للشؤون الدولية»، أندريه كورتونوف، أن «الأزمة العالمية الحالية تتطوّر في عدّة اتجاهات في وقت واحد، والتخريب في خطوط الأنابيب بالطبع، أحد عناصرها». وفي نظرة تشاؤمية، لا يستبعد كورتونوف «احتمال نشوب صراع عالمي تماماً».