استراتيجية أميركية «محدّثة» لأفريقيا: الحرب على الإرهاب تتوالد
ميّزت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 انطلاقَ حرب أميركية دائمة على الإرهاب في القارة الأفريقية، سرعان ما اكتسبت قدرة وزخماً جديدَين بتشكيل «قيادة القوات الأميركية في أفريقيا» (أفريكوم) عام 2007. وعشية الذكرى الـ 21 لهجمات أيلول، طوّرت واشنطن سياسة مواجهتها للإرهاب في القارة ضمن ما عُرفت بـ«الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء» (آب 2022).
دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ أحداث أيلول، على وضْع استراتيجيات وقوانين وخطط محدّدة لمواجهة الإرهاب في القارة الأفريقية – منذ أن وضعت إدارة جورج بوش الابن القرن الأفريقي على خطّ المواجهة الأمامي في «الحرب العالمية على الإرهاب» -. وفي خضمّ التنافس الدولي المتصاعد على موارد القارة ونطاقات النفوذ السياسي والاقتصادي فيها، بادرت واشنطن إلى «تغيير مسار» مقاربتها المعنيّة بمواجهة الإرهاب في أفريقيا لمواكبة مستجدّات هذا التنافس، وفي القلب منه اتباع سياسات استباقية سواء في مناطق الأزمة التقليدية (القرن الأفريقي وإقليم الساحل ووسط أفريقيا)، أو في المناطق المحتملة، كما في غرب أفريقيا تحديداً.
وقد بلورت «الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء» ما تقدَّم؛ إذ أعلنت إدارة جو بايدن أولويّة «تعبئة الموارد لمكافحة الإرهاب لتحجيم تهديد الجماعات الإرهابية (لكل من) الولايات المتحدة، والأفراد، والمرافق الدبلوماسية والعسكرية، وعدم توجيه القدرة (العسكرية الأميركية) الأحادية إلّا في الحالة القانونية وعندما يكون التهديد حالة خطورة بالغة»، على أن تعمل الإدارة «من خلال ومع وعبر شركائنا الأفارقة، بالتنسيق مع حلفائنا الرئيسيّين، على أساس ثنائي ومتعدّد الأطراف لتحقيق أهداف مكافحة الإرهاب وتعزيز المقاربات المدنية وغير العنيفة طالما كانت ممكنة ومؤثرة. وكجزء من هذه المقاربة، فإنّنا سنطبّق برامج مخصّصة لبناء قدرة مؤسسات شركائنا المحليين الأمنية والاستخبارية والقضائية لتحديد الإرهابيين وشبكات دعمهم وتفتيتها وقهْرها ومشاركة المعلومات حولها». بالنسبة إلى مناصري بايدن، تُقدِّم الوثيقة «رؤية جديدة» للشراكة الأميركية – الأفريقية في القرن الـ 21، وذلك على رغم كيْل الانتقادات لها من جانب «دوائر يمينية» وصفتها بأنها «تجسيد لسياسات باراك أوباما»، وبأنها «تتجاهل النظر إلى أفريقيا ككلّ»، وتركّز، بدلاً من ذلك، على «جنوب الصحراء»، ما يتناقض مع تصوّر الأفارقة لقارتهم.
على أيّ حال، كشفت الفقرة الموجزة السابقة في الوثيقة (والوحيدة التي تعالِج حصراً مسألة مواجهة الإرهاب في نصّ الوثيقة الأميركية الواقعة في 15 صفحة)، وما تلاها من ربط سافر لجهود «الحرب على الإرهاب» في مواجهة «النفوذ الروسي الخبيث» في أفريقيا، عن استمرار الرؤية الأميركية التقليدية للإرهاب في القارة، كملفّ هامشي، فيما هي استمرار لسياسة «الخطوة خطوة» القائمة على رهْن أنشطة الدعم الأميركية بالمضيّ قُدُماً في الاستجابة لمتطلّبات مصالح الولايات المتحدة المختلفة في الدول الأفريقية المعنيّة.
تمدُّد الحرب الأميركية على الإرهاب: غرب أفريقيا نموذجاً
أكدت الولايات المتحدة، عشية الذكرى الـ 21 لأحداث 11 أيلول، توسيع جهودها في مواجهة الإرهاب في أفريقيا، عبر الكشف عن إرسال فريق من جنود العمليات الخاصّة للمشاركة في تدريب قوات الجيش الإيفواري، استجابةً لطلب أبيدجان مساعدتها في مواجهة تهديد توسُّع الجماعات الإرهابية من الساحل إلى خليج غينيا. ولفتت السفارة الأميركية لدى أبيدجان (10 أيلول) إلى أن التدريب يمثّل جزءاً من «تعزيز القدرات العملياتية والتكتيكية لمنْع التطرّف العنيف والاستجابة له وتحجيمه»، الأمر الذي عُدّ تطويراً لأنشطة القوات الأميركية بالتعاون مع جيش كوت ديفوار الاستباقية لمواجهة التهديدات الإرهابية المحتملة، والربط بين هذه التهديدات في إقليم الساحل وتداعياتها في غرب أفريقيا. وكانت كوت ديفوار ساحةً للعديد من الهجمات الإرهابية في السنوات الأخيرة، والتي وقع أغلبها قرب الحدود مع بوركينا فاسو شمالي البلاد، ما دفع أبيدجان والولايات المتحدة إلى التعاون على القيام بعمليات مشتركة لمواجهة تصعيد تنظمَي «القاعدة» و«داعش» عمليّاتهما في الإقليم، ولا سيما في مالي وبوركينا فاسو وغربيّ النيجر، في ظلّ الخشية من توسُّع عمليّاتهما إلى دول غرب أفريقيا الساحلية.
وفي المسار نفسه، بادر الرئيس الغاني، نانا أكوفو – أدو، نهاية الشهر الماضي، إلى طلب مساعدة الولايات المتحدة بلاده وإقليم غرب أفريقيا في تعاملهما مع تهديد الإرهاب والتطرّف العنيف. ولفت أدو نظر وفد من الكونغرس الأميركي خلال زيارته أكرا (بأجندة واضحة هي تقييم مشروعات الحكومة الأميركية وبرامج واستثمارات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» USAID في غانا)، إلى أن «التهديدات التي تفرضها الشبكة الإسلامية الآخذة في التوسّع قيّدت النمو السوسيو – اقتصادي في الإقليم»، وأن هذه التهديدات «كانت نتيجة لقتال الولايات المتحدة طوال عقد كامل ضدّ الإرهاب في الشرق الأوسط وأجزاء أخرى من العالم»، قبل أن يضيف ارتباط هذا التوسّع بسقوط نظام معمر القذافي في ليبيا قبل أكثر من عقد. وحلّل الرئيس الغاني الوضع باستفادة الجماعات الإرهابية في إقليم الساحل من تداعي نظام القذافي وتوغلها في إقليم غرب أفريقيا – مثل مالي – للفرار من مواجهة الولايات المتحدة. ولم يمنع عدم تعرّض غانا لأيّ هجمات إرهابية، على رغم قربها من مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا، تصاعد مخاوفها المستقبليّة من هذه التهديدات.
القرن الأفريقي والقيادة العسكرية الأميركية الجديدة في أفريقيا
احتفت وزارة الدفاع الأميركية، في آب الفائت، بالتزامن مع إعلان الاستراتيجية الأفريقية الجديدة، بتولّي مايكل لانغلي قيادة القوات الأميركية في أفريقيا، خلفاً لستيفن تاونسند. وفي ظل هذه الأجواء «الهوليوودية»، كشفت ملاحظات تاونسند الختامية حول مهمّته في الأعوام الثلاثة الماضية، عن جهلٍ بنيوي فادح لدى واحدة من أهمّ «أدوات» المقاربة الأميركية؛ إذ أشار إلى أن مدّته كانت «تعليماً»، وإلى أن القارة كبيرة ومعقّدة ومتنوعة، ولا يمكن أميركا تجاهلها: «القارة مليئة بالمقدرات، لكنّها تعجّ بالتحديات وتقف عند مفترق طرق تاريخي. فمن جهة، هناك النزعة الاستبدادية والنفوذ الأجنبي الخبيث (الروسي والصيني)، والإرهاب وانعدام الأمن الغذائي والاقتصادي. ومن الجهة الأخرى، هناك السلام والأمن والديموقراطية والتنمية وحكم القانون. إن مستقبل أفريقيا سيكون له أثر عالمي».
لكن يبدو أن خلفه لانغلي، الأميركي من أصول أفريقية، يتحرّك بديناميكية أكبر، إذ توجّه، بعد نحو أسبوعين من تقلُّده قيادة القوات الأميركية، من مقرّ الأخيرة في شتوتغارت إلى القرن الأفريقي في زيارته الأفريقية الأولى (28-31 آب الفائت)، التي شملت كلّاً من جيبوتي والصومال وكينيا، والتي سعى في خلالها إلى فهم «الوضع السياسي والعسكري في شرق أفريقيا» ومناقشة المخاوف والأولويات المشتركة. وكشف مستوى اللقاءات الثنائية التي جمعته إلى الرئيسَين الصومالي حسن شيخ محمود، والجيبوتي عمر جيله، ووزيرَي الدفاع والخارجية وكبار المسؤولين العسكريين في هذين البلدين، عن وضع أولوية أميركية واضحة لمواجهة الإرهاب في الإقليم وبؤرته الحالية في الصومال، واتباع سياسة التنسيق الإقليمي بمستوى أعمق وأكثر نجاعة لتحقيق الأهداف المشتركة للأطراف المعنيّة.
وجاءت زيارة لانغلي واقعية للغاية، إذ يهدّد توسُّع حركة «الشباب» في الأراضي الإثيوبية، منذ نهاية تموز الماضي، بانفلات الأوضاع الأمنية في الإقليم برمّته، ولا سيما في ضوء الخسائر البشرية الهائلة منذ تموز وحتى اليوم، والتي قدّرت بالآلاف، بحسب بيانات للجماعة ورئيس الإقليم الصومالي في إثيوبيا مصطفى عمر، في ظلّ ملاحظة خطيرة للغاية بعبور قوات «الشباب» إلى الأراضي الإثيوبية عبر إقليم بكول Bakool في الصومال، من دون أيّ معارضة وربّما بتسهيل من الأهالي. وبحسب تقييم لقيادة أفريقيا الأميركية، فإن «مقاتلي الشباب ربما يكونون قد توغّلوا بعمق 150 كيلومتراً داخل الأراضي الإثيوبية» (ومن أقاليم صومالية مختلفة). وأشار رئيس القيادة السابق تاونسند إلى أن هجوم «الشباب» ليس «ضربة حظّ أو هجوماً خاطفاً وحيداً»، بينما رأى محلّلون مطّلعون (Ethiopia Insight, September 9) أن «العملية، وبخلاف تقديرات أديس أبابا قبل أسابيع، كانت مكثّفة ومعقّدة للغاية، وتطلّبت تدخُّل القوات الفدرالية (الإثيوبية)».
وهكذا، فإن سياسة واشنطن لمكافحة الإرهاب في القرن الأفريقي ستتشابك عملياتيّاً مع جهودها للوساطة في الأزمة الإثيوبية، أخذاً في الحسبان التوتّر السياسي الحالي في العلاقات الصومالية – الإثيوبية وخطورة مُضيّ أديس أبابا قدماً في مشروع إقامة منطقة عازلة داخل الصومال بعد فشل الضربات الجوية المحدودة التي وجّهتها القوات الفدرالية «ضدّ مقاتلي الشباب».
خلاصة: استدامة المشروطية الأميركية
على رغم التوجُّهات المتفائلة التي أبداها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، وكبار مسؤولي وزارته إزاء الحضور العسكري الأميركي في أفريقيا والحرب على الإرهاب، إلّا أن خبراء عسكريين في «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» (ACSS) التابع لـ«البنتاغون»، أصدروا حديثاً تقريراً دحضوا فيه تماماً تقييمات أوستن الإيجابية. وممّا كشفه التقرير، تضاعف أنشطة «الجماعات الإسلامية المسلّحة منذ عام 2019»، فيما رصد أن نحو 95% من هذه الزيادة في عنف الجماعات الإسلامية في القارة تركزت، منذ ذلك العام، في الساحل والصومال، مع وجود مخاوف من تمدُّدها في مناطق ودول أخرى. ورصد التقرير وقوع 6255 ألف حادث عنف على يد الجماعات الإسلاموية في عام 2022 حتى نهاية تموز 2022، في زيادة بلغت 21% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، فيما ارتفع عدد ضحايا هذه الحوادث إلى 14635 فرداً، في زيادة بأكثر من 50% مقارنةً بالفترة نفسها في عام 2019.
كما أن تأكيد الدبلوماسيين الأميركيين في القارة اقتناع بلادهم بأن الحلّ يكمن في تقوية الصلات بين الدولة وسكّانها، وأن الوسيلة المثلى لمنع التهديدات الإرهابية تتمثّل في «تقوية التحوّل الديموقراطي، واحترام حريّات الأفراد والتحوّل الاحترافي إلى الأجهزة الأمنية»، يجيء في موازاة رغبة أفريقية في الاستفادة من الدعم الأميركي مباشرة، كما في حالة غانا – مثالاً – ودعوتها إلى مزيد من هذا الدعم إلى جانب المساهمة العملية من قِبَل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لها ولدول الإقليم في مواجهتهم للإرهاب، وربط هذا المسار بحاجة غانا إلى زيادة الاستثمارات الأميركية في مجال تطوير السكك الحديدية، بهدف تعزيز قطاع النقل في البلاد، و«تقوية الصلات الاقتصادية بين البلدين»، وليس الاقتصار على ملفّ مكافحة الإرهاب.
تشير مناقشات مسؤولي الدفاع الأميركيين بخصوص مكافحة الإرهاب في أفريقيا، وتبنّيهم مقاربات شمولية، أو ما وصفته مسؤولة في «البنتاغون» بأنه «جهود ثلاثية الأبعاد تتضمّن الدبلوماسية والدفاع والتنمية» ولا تتعلّق فحسب بمواجهة الإرهاب، إلى رغبة أميركية محمومة في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية غير مسبوقة في القارة الأفريقية من بوابتها الأثيرة «الحرب على الإرهاب» عبر فرض شروط سياسية وتنموية حقيقية بمبرّرات «مفهومة» وغايات ستَكْشِف عنها القمة الأميركية – الأفريقية المقبلة في واشنطن بشكل أكثر وضوحاً.