اللحظة “الاستراتيجية” للترسيم لم تتبلور بعد
لا جدية لبنانية يمكن ترجمتها على أرض الواقع في مقاربة الملف. يركّز اللبنانيون في طروحاتهم على المؤشرات الإيجابية، وهو ما يلتقون به مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الذي أكد تفاؤله في أكثر من زيارة ومحطّة.
قبل فترة أعلن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله أن هناك مماطلة إسرائيلية وأميركية في إنجاز ملف الترسيم وأنهما لا يريدان إنجازه. في الموازاة ثمة مماطلة مقابلة من الجانب اللبناني والحزب ليس بعيداً عنها.
تضارب في المعطيات
يعيش لبنان تضارباً كبيراً في المعطيات إزاء هذا الملف. منذ إقرار اتفاق الإطار الى اليوم، وما بينهما من سجالات وصراعات حول الخطّ 29 وتوقيع تعديل المرسوم 6433، وصولاً إلى المطالبة بالخطّ 23 كاملاً مع حقل قانا، مروراً بمطالب إسرائيلية حول قضم مساحة من البلوك رقم 8 ومن ثم التراجع عنه، أو المطالبة بتعويضات رفضها لبنان فيما يفترض بالشركات أن تتولى هذا الأمر.
وسط هذه العناوين كلها برزت مشكلة “نقطة إنطلاق الخطّ 23”. والتي يقول المسؤولون بأن لا علاقة لها بالبر ولا بالنقطة B1 وهو قول غير صحيح.
كل هذا التضارب يعكس إما عبثية أو تضارباَ في المصالح، أو رغبة جامحة وطموحا كبيراً في إعلان الإنجاز. وهو أمر يرتبط بملفات أكبر، فهناك قناعة راسخة بأنه لا يمكن الوصول إلى اتفاق الترسيم قبل الوصول إلى اتفاقات كبرى على الصعيدين الخارجي والداخلي لإعادة رسم ملامح النظام السياسي وموازين القوى فيه.
التضارب الذي تابعه اللبنانيون إزاء الخط 29 وعدم تعديل المرسوم لحسابات متعددة أفضت إلى التنازل. ولكن في المقابل، نجح لبنان في تحقيق مطالب أساسية وهي التي يصفونها بالتقدم الذي جرى إحرازه، أي الحصول على موافقة أميركية واسرائيلية بالخط 23 كاملاً، ما يعني تراجع الإسرائيليين عن الخط 1 وخط هوف، بالإضافة إلى رفض مبدأ التنقيب المشترك ورفض مبدأ دفع التعويضات.
تلازم المسارين
حالياً برزت نقطة انطلاق خطّ الترسيم أو ما أصبح يُطلق عليه الخط الأزرق البحري، وبمجرد تسميته بالخطّ الأزرق يعني ضمناً ربطه ولو رمزياً بالخطّ الأزرق البرّي، علماً أنه في المستقبل سيبدأ الحديث عن الترابط بين الملفين.
في الأساس ربط لبنان تلازم المسارين البرّي والبحري في الترسيم وهو مطلب لبناني بحت وهناك الكثير من المواقف بالصوت والصورة للرئيس نبيه بري حول هذا الأمر. ما يعني أن طرح فكرة التلازم بين المسارين لبنانية وكانت أساسية لإنجاز الترسيمين وهو ما لا يريده الأميركيون أو الإسرائيليون. وصل الأمر إلى هذه النقطة، على الرغم من نفي غالبية المسؤولين لذلك، والنفي مردّه للحرص على الإيجابية ولعدم إجهاض الإتفاق.
السير بين النقاط
كل ما يجري يدفع إلى قناعة مرتكزة إلى تقديرات بأن الوقت لم يحن للإتفاق، ولكن لا أحد يريد انفراط عقد التفاوض لتجّنب التصعيد، خصوصاً أن لا أحد يريد التصعيد لا “حزب الله” ولا إسرائيل. لذلك لا بد للطرفين من التنقل بين النقاط على وقع التهديدات والمفاوضات. الغاية هي كسب الوقت، بينما سياقات الإتهامات الداخلية بين المسؤولين من شأنها فقط أن تؤدي إلى تصغير هذه القضية الإستراتيجية والوطنية. ولا بأس للأميركيين أو الإسرائيليين في الإستثمار بمثل هذه الصراعات الداخلية كما كانوا قد استثمروا من قبل في الصراعات حول تعديل المرسوم 6433، بدعم جهات محسوبة عليهم تطالب بتعديله مقابل الضغط على المسؤولين وتهديدهم لعدم التعديل. جزء من هذه العبثية الداخلية يستفيد منها الإسرائيليون كما الأميركيون. يتجدد العبث الآن حول الخط الأزرق البحري. فيما هناك طرف يرغب باستعجال انجاز الإتفاق، وطرف آخر يفضل تأخيره إما لحسابات داخلية لما بعد انتخاب رئيس جديد، أو بعد مغادرة الرئيس ميشال عون، وإما لحسابات أخرى ذات أبعاد استراتيجية.
انتقال إلى مرحلة جديدة
هنا لا بد من الإشارة إلى أن ترسيم الحدود البحرية يعني إعلان الإستقرار في تلك المنطقة، ويعني الإنتقال إلى ترسيم الحدود البرية، ما يعني البحث بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وهذا أمر سيكون له أبعاد مرتبطة بسلاح “حزب الله” وضغوط خارجية على هذا السلاح.
لا ينفصل ذلك عما حصل مؤخراً في موضوع اليونفيل، وسط توقعات بأن تثار هذه القضية أكثر في المرحلة المقبلة . وهي قد تؤدي إلى توترات أو مناوشات بين الحزب واليونيفيل. الأكيد أن اللحظة الإستراتيجية لإنجاز هذا الملف لم تحن بعد وإذا كان في ذلك مصلحة اسرائيلية أو أميركية بالتأكيد فلا مصلحة لـ”حزب الله” بذلك. هناك من يعتقد أن مثل هذه الإتفاقات لا تأتي إلا بعد حصول تطورات كبرى إقليمياً وداخلياً، وأن فرض مثل هذه الحلول لا يحصل إلا بالإرتكاز على قوة عسكرية أو استعراض عسكري أو مواجهة وإن كانت محدودة، لا يريدها أحد الآن. لاحقاً سيكون الحلّ جزء من سلّة متكاملة يُطرح فيها تعديلات تطال النظام أو تغير التوازنات فيه.