القوة الصاروخية للعمق والقوة البرية لكسر جيش العدو
من التحرير – أيار 2000 (أرشيف – الأخبار)
من التحرير حتى تموز
بعد تحقّق التحرير في أيار 2000، اعتقد كثيرون أن المقاومة ستفقد دورها الأساسي، وسينتهي فعلها المقاوم، وإما هي ذاهبة باتجاه تسليم سلاحها أو متابعة العمل «السياسي» الحزبي، أو هي ستدخل في حالة من «الترف» والراحة والرفاهية، ستبرد معها حماسة مجاهديها للقتال، و«ستصدأ» صواريخها في المخازن، كما عبّر العدو في سنوات ما بعد التحرير.
لكن، في مركز قرار المقاومة، كان التوجّه واضحاً لا لبس فيه ولا تردّد. ويقول القائد الجهادي الكبير أننا «دخلنا في مرحلة جديدة، وأن مهمّة المقاومة تطورت وتغيّرت معالمها». صحيح أن العدو اندحر عن الأراضي اللبنانية، «باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر وبعض التعرّجات على خط 48 الذي لا نعترف به»، إلا أننا «لم نكن لنعتقد للحظة، أننا يمكن أن نشعر بالأمان لمجرّد أن العدو انسحب، وكنا دائماً نعتقد أن مجرد وجود الكيان بالقرب من أرضنا اللبنانية، يشكّل خطراً كبيراً وداهماً. وأكثر من ذلك، نحن أصلاً ننطلق من فكرة أنه طالما هناك وجود إسرائيلي في فلسطين المحتلة، فلا يمكن أن يتحقّق لنا الأمن في لبنان (…) وهذا المفهوم كان قد أشار إليه الإمام الخميني حين قال إن إسرائيل غدّة سرطانية، يجب إزالتها من الوجود».
ويضيف القائد الجهادي، أنه على ضفّة العدو، شهد الكيان «صراعاً بين منطقين: الأول يعتبر أن الانسحاب سيسلب حزب الله ذريعة القتال، ويجبره على التماشي مع خطّة ضبط الحدود، والثاني يعتقد أن حزب الله يتبنّى هدف إزالة إسرائيل من الوجود، بالتالي فإن الانسحاب لن يوقف القتال». إيهود باراك، الذي كان رئيساً لحكومة العدو منذ أيار 1999، كان من أنصار المنطق الأول، ورجّحه على الثاني، «معتقداً أنه لن تكون لدينا حجّة للقتال بحال تمّ الانسحاب من جنوب لبنان، خصوصاً أننا كنا نراعي الوضع السياسي الداخلي». لكن، «أوّل حجّة مثلت أمامنا آنذاك لاستكمال القتال، كانت قضية الأسرى (…) يومها، أطلق الأمين العام السيد حسن نصرالله موقفه المعروف: نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون». وطالبت المقاومة بإطلاق سراح الأسرى عقب التحرير، لكن العدو «تحامق ولم يتركهم». بعد التحرير بأقل من 5 شهور، نفّذت المقاومة عملية أسر في شبعا، والتي كان حصيلتها أسر ثلاثة جنود إسرائيليين.
يكمل القائد الجهادي أن خطة العملية «كانت جاهزة مباشرة بعد الاندحار بين يدي الحاج عماد مغنية، في غضون أقل من أسبوعين، وتمّ الاستعداد لها لحوالي 4 شهور متواصلة، وكنا قد «تجهّزنا لمواجهة الإسرائيلي الذي كان ينتظره كمين قاسٍ، بحيث أنه لو تقدّم برّياً بعد عملية الأسر، لكان وقع في الفخ ولم يستطع العودة منه سالماً». كان العدو «خائفاً حذراً جباناً، لكن ذكياً، فلم يقم بأي ردّ فعل من النوع الذي كانت تتحسّب له المقاومة». وفي الواقع، «لقد علم العدو أنه بحال تقدّم، ستقع قواته في مصيدة المقاومة». ونُفّذت عملية الأسر بسرعة، مع معرفة العدو المسبقة بخطورة المنطقة واحتمال الاستفادة منها لأسر جنوده، ورغم ذلك «بقي 45 دقيقة بعد العملية، من دون أن يأتي بأي تحرّك، ومن دون علم بحقيقة ما جرى، وهو بذاته فشل كبير وفضيحة عسكرية لو كان هناك من يُحقّق ويحاسب، وبعدها لم يقم بأي رد فعل، حتى أنه لم يقصف المناطق اللبنانية، ولم يلاحق الإخوة الذين نقلوا الأسرى». أظهر أداء العدو حينها «المستوى الذي وصل إليه هذا الجيش، ورغم كل السنين من الخبرة زاد جهلاً وضعفاً، ولم يتعلّم من خطأه السابق في الاحتفاظ بالأسرى بعد الانسحاب في أيار عام 2000، فتمنّع عن إطلاق سراح الأسير اللبناني (الشهيد) سمير القنطار في عملية التبادل التي حصلت لاحقاً، ما شرّع المجال لتنفيذ عملية ثانية، بهدف تحرير القنطار».
أما حجة القتال الثانية، فكانت مزارع شبعا المحتلة، و«التي باعتبارها جزءاً من الأراضي اللبنانية، فقد كان للمقاومة حقّ القتال حتى تحريرها». في ذلك الوقت، قامت المقاومة بعدّة عمليات «تذكيرية» في المزارع، و«لم يكن التحضير للأعمال العسكرية مقتصراً على مزارع شبعا، لكن التنفيذ اقتصر عليها، وبقية المحاور بقيت تعدّ الخطط وتجهّزها للحظة تطلب القيادة تنفيذ أي منها».
اتجاهات العمل
يعود القائد الجهادي إلى تلك المرحلة، ويقول: «لقد تركّزت خطط المقاومة العسكرية خلال الشهور الأولى بعد التحرير، حينها في ثلاث اتجاهات أساسية قادها الشهيد الحاج عماد:
– أولاً: الداخل الفلسطيني، حيث كانت قد انطلقت الانتفاضة الثانية (28 أيلول 2000). إذ «كان لدينا افتراض أن الحراك داخل فلسطين سيكبر وينمو بقوة، وسيصبح التفاعل معه كبيراً، فعملنا على أن تكون لدينا جاهزية المساندة، في حال تطوّرت الأوضاع داخل فلسطين». وهذا المسار، «كان له طابع أمني، وليس فقط عسكرياً، لكن الأمور داخل فلسطين أخذت منحى آخر، إذ أن الإسرائيلي الذي علم أن انسحابه من لبنان أثبت جدوى المقاومة مقابل الخيار السياسي، كان يخشى تكرار هذا الخيار في الداخل الفلسطيني».
– ثانياً: التحضير لعمليات على طول خطّ الحدود مع فلسطين المحتلة لتنفيذها في الوقت المناسب.
– ثالثاً: الإعداد والتجهيز للحرب المقبلة التي «كنا نتوقّعها كردّ فعل إسرائيلي على الأعمال العسكرية المتنامية للمقاومة، منذ التحرير». ومن هذا المنطلق، «اعتبرنا هذه الفترة (أي من أيار 2000 إلى موعد الحرب الجديدة …) فرصة ذهبية لنا لبناء تشكيلاتنا من جديد، بعد أن كانت قدراتنا تُستنزف بشكل متواصل منذ انطلاقة المقاومة عام 1982، فقد كنا باستنفار دائم طوال 18 سنة ولم نتوقّف عن السباق مع العدو». وفي هذا السياق، «بدأنا بالعمل على تنظيم التشكيلات على طريقة بناء الجيوش، مستفيدين من تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين، كل الآخرين، مقاومات ومنظّمات وعصابات وجيوش وأعداء وأصدقاء، استحضرنا تجارب الجميع وبالأخص تجربتنا الذاتية التي نعتبرها الأغنى والأنفع لنا (…) بدءاً من الدورات ذات المستوى العالي، مثل دورات القيادة والأركان، وصولاً إلى إعادة تشكيل الصفوف العسكرية بما يتلاءم مع التطويرات داخل التنظيم». ويوضح القائد الجهادي أن هذه الفترة، كانت «ذهبية» أيضاً، في ما خصّ الدعم والتسليح، «وأصبح تفكيرنا في موضوع السلاح مختلفاً، إذ قبل هذه المرحلة، كان العمل على موضوع التسليح، كما التشكيلات، يتمّ بناءً على تراكم الحاجة». أما وقد أصبحت المقاومة بهذا المستوى، مترافقاً ذلك مع تصاعد الدعم الإيراني من خلال الحاج قاسم سليماني، «فقد أصبح بإمكاننا العمل على بناء القدرة العسكرية للمقاومة، بما تستلزمه المهمّات المقبلة».
المهمّة: كسر إسرائيل في الحرب
لا يساور القائد شكٌّ بأن «الهدف الكبير والحلم الدائم لملايين الأحرار هو تحرير فلسطين وإزالة الاحتلال الإسرائيلي، سيتحقّق في يوم ما»، إلا أن المهمة بالنسبة للتشكيلات العسكرية للمقاومة الإسلامية في سنوات ما قبل 2006، كانت «كسر إسرائيل في أي معركة مقبلة، إذ إن ذلك يُعتبر من أولى الخطوات باتجاه إزالتها»، بحسب القائد الجهادي. «كان علينا أن نعمل على إنهاك العدو من الداخل (…) لذا عملنا ـــ وللمرة الأولى ـــ على بناء قدرة دفاعية وهجومية في الوقت نفسه». في هذه المرحلة، وبما أن العدو لم يستطع تحمّل القدرة على قتاله عند خط الحدود، وكان دائم السعي لإبعاد المقاومين عن الحدود، بما يحول دون قدرتهم على ضرب بعض الأهداف، «استلزم منا كل ذلك العمل على تأمين ثلاث نقاط أساسية»، وهي:
– تحقيق القدرة على استهداف العمق الإسرائيلي، و«لكن من عمقنا، وليس فقط من الحدود». وهذا يتطلّب قدرات صاروخية بعيدة المدى، بهدف تشكيل نيران ضاغطة على العدو في الداخل.
– تحقيق القدرة على سلب إسرائيل تفوّقها في المجالات التي يمكن ذلك فيها، «المجال الجوي ــــ آنذاك ــــ كان صعباً، لذلك كان التركيز على المجال البحري»، أي على إفقاد الإسرائيلي التفوّق في البحر، مما استلزم العمل على تعزيز القدرة العسكرية البحرية لدى المقاومة.
– قدرة التدمير البري. إذ كان التقدير لدى المقاومة هو أن العدو سيعمد في أي حرب مقبلة إلى التقدّم البري والتوغّل داخل الأراضي اللبنانية، و«انطلاقاً من تقديرنا، رأينا ضرورة سلبه إمكانية تحقيق أي نصر على المستوى البرّي، فكان العمل على تجهيز القدرة العسكرية الكافية التي تضمن تدمير أي قوة عسكرية تتوغّل براً داخل الأراضي اللبنانية».
هذه الأهداف الثلاثة، كانت بمثابة التحضير لـ«القدرة الدفاعية» بصورة أكبر، وبشكل متوازٍ «كان قد انطلق العمل منذ التحرير، باتجاه رفع مستوى القدرة الهجومية».
عملية الأسر والحرب
صبيحة يوم الأربعاء في 12 تموز 2006، وانطلاقاً من راهنية وحساسية وأهمية قضية الأسرى في سجون العدو الإسرائيلي، تمكّنت المقاومة من تنفيذ عملية أسر في خراج عيتا الشعب، وكان حصيلتها أسيران في يد المقاومة. بعد العملية، أقدم العدو على تنفيذ ما أسماه بعملية «الوزن النوعي»، والتي اعتقد أنه سيتمكّن عبرها من تدمير القدرات الصاروخية لدى المقاومة، و«المواقع الصاروخية التي استهدفها في العملية، كنا قد بنيناها منذ عام 1996، وهنا كان الحاج عماد، قد نصب فخّاً للإسرائيلي، ففرّغ المواقع من الصواريخ، وتركها قائمة من دون أسلحة، فقُصفت كل المواقع من دون أن يُدمر أي صاروخ». وفي الحقيقة، «كان لدينا في ذلك الوقت، أضعاف مضاعفة من الأسلحة موجودة في أماكن جديدة». خاضت المقاومة الحرب، وخلالها جرت ترجمة المسارات الثلاثة السابقة، في الميدان. و«أثبتت القدرات جدواها منذ بداية الحرب، والإسرائيلي قرأ توقيتنا لتفعيل القدرات، وعلم أن خطواتنا وحساباتنا كانت مرتبطة بمسار المعركة، وليس بالإمكانية».
يؤكّد القائد: «كنا نستطيع منذ بداية الحرب أن نرمي تل أبيب، بكل سهولة». وهذا أدركه العدو خلال الحرب، و«علم أنه لم يعد في مواجهة مقاومة عادية، بل أصبح يواجه قوة حقيقية لديها أضعاف مضاعفة من التجهيزات، إضافة إلى تلك التي كان يعتقد بوجودها». سعى العدو الإسرائيلي إلى إنهاء القتال عام 2006، قبل 14 آب، الموعد الذي توقّف فيه إطلاق النار بالفعل. في الواقع، «في قيادة المقاومة العسكرية، كان البعض يطلب استمرار القتال والحرب، لأن الإسرائيلي كان قد وصل إلى ذروة قدرته على التحمّل، وإذا أكملنا، فهو سينهار». لكن، «كان رأي سماحة السيد حسن، بأننا قد تمكنّا من إفشال خطة العدو ومنعه من تحقيق أهداف أخرى، ولا نريد تحقيق أهداف أخرى، وأن هذا كافٍ». في 14 آب، «كان من المفترض أن تعود الناس إلى قراها ومنازلها، وكان قرار المقاومة حاسماً، بأن العدو لديه 24 ساعة فقط، وإن لم يبدأ بالانسحاب، أو اعترض بأي شكل من الأشكال طريق العودة أمام شعب المقاومة، فإن المقاومة كانت ستبدأ عمليات عسكرية ضدّه من نوع مختلف، وستخرجه من الجنوب تحت النار». لكن ما حصل وقتها، أن «الناس خرجت بشكل شجاع ومذهل، وسلكت الطرقات المدمرة والخطيرة إلى بلداتها ومدنها، وفي المقابل بدأ الإسرائيلي بالانسحاب من الأراضي اللبنانية، في الوقت المحدّد تماماً».
«كانت إسرائيل»
لا يتعب القائد الجهادي من الحديث. يستعرض المراحل، واحدة تلو الأخرى، ويروي تفاصيلها الدقيقة، ويستذكر الأسماء والوجوه، وأنواع الشجر ولون التراب. أربعون عاماً مضت، يقول القائد في ختام الحديث الذي امتدّ لساعات طويلة: «بفضل الله، أثبت الخمينيون، صدق ما قاله الإمام الخميني لنا منذ الأيام الأولى لانطلاقتنا: قاتلوهم سيُهزمون وتنتصرون». لم يقتنع أحد بذلك يومها، إلا قلّة، «اليوم الكل عاشها حقيقة واضحة، إسرائيل قابلة للانكسار، وقد انكسرت، والمقاومة هي الخيار الأفضل والأوحد». في ما بعد، أثبتت المقاومة بعملها وجدّها وتضحياتها، ما قاله «سماحة السيد حسن نصرالله، أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، كثيرون استغربوا قوله ولم يفهموه إلا بعد تموز 2006، حيث بان ضعف إسرائيل وهوانها». لن يطول الأمر لأربعين أخرى، ولا يجزم القائد أنه سيكون خلال عام أو عامين… إنما «قطعاً سيأتي اليوم الذي يرى فيه العالم كيف أن إسرائيل تفكّكت وتمزّقت وهُزمت، وفلسطين تحرّرت». في يوم ما، قادم لا محالة، يقول القائد الكبير: «سيقول من يكتبون التاريخ: كانت إسرائيل».