عدد المشاركين في قداس الشهداء 1000 والشعلة لن تنطفئ هل يطرح جعجع مبادرة سياسية ؟
يوم مات الوعد، البشير، شعر المسيحيون، وكثير من المسلمين أولاد الأصول، بأن الحلم انتهى. لكن، من قلب اليأس الكبير الذي ساد يومها استجمع كثيرون كل قواهم وتابعوا. فالاستسلام في قاموس هؤلاء ممنوع حتى في أشد اللحظات ظلمة. وها هم كثيرون اليوم يعيشون إحباطاً من نوع آخر، إحباط اندحار الدولة وعودة “أدبيات” شيطنة الشهداء المسيحيين والدفع في اتجاه الهجرة المسيحية خصوصاً والإستسلام والإحباط.
فلنبدأ من يوم غد. ماذا ستشهد ساحة القداس السنوي للمقاومة اللبنانية (المسيحية )؟ وأي رسائل ستُرسل من فوق؟
سيقتصر الحضور غداً، بسبب ظروف كورونا وأزمة المحروقات الشديدة، على عدد محدود من المشاركين، نحو ألف شخص على أن تحترم مسافة التباعد بينهم، ولن يكون هناك مدعوون سياسيون. أهل الشهداء لن يشاركوا أيضا حضوراً خوفاً عليهم من فيروس كورونا ومتحوّراته. والدعوات إقتصرت على مسؤولين في القوات وعلى رؤساء الأجهزة والمصالح والمنسقين ورؤساء المراكز والمكاتب.
مقاومة المسيحيين
كلمة رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع تأتي في الشكل وسط نقمة شعبية عارمة وشباب لبناني يبحث عن أي ملاذ ويحتاج الى من يطمئنه، في ظل غياب فرص العمل وانسداد الأفق السياسي ما يدفع الكثيرين الى التفكير جدياً بالهجرة، كما تسبق في الشكل أيضا الإستحقاق الإنتخابي. إنطلاقا من كل هذه الإعتبارات التي تشكل المناخ السائد اليوم ستأتي كلمة رئيس حزب القوات مشدداً فيها على أنه رغم من مأسوية ما نعيش يجب الإستمرار في النضال والمقاومة. وشعار القداس هذه السنة هو: المقاومة مستمرة. ستشدد كلمته على أن اليأس ممنوع والإحباط إستسلام والنضال مسألة اساسية من أجل الحياة. ستكون هناك مبادرة سياسية غداً من قلب القداس وجملة رسائل في اتجاهات عدة ذات مضمون سياسي واضح وتحية إجلال لشهداء المقاومة المسيحية.
الشهداء كل الايام لهم، هم حاضرون، راسخون، في القلب والعقل والوجدان. لكن، ماذا عمّن يسأل اليوم، أكثر من أي يوم: لماذا مات من مات؟ لماذا استشهد كل من استشهد؟ وهل يستحق لبنان كل تلك الدماء التي رووا بها الأرض؟
أنطوان نجم، الملتزم بالمقاومة المسيحية، يذرف الدمع حين يستذكر الشهيد بشير والشهداء ويقول: “عشتُ أحداث 1958 و1975 ويومها صادفتُ شباباً كثراً غير مؤمنين بالبقاء في لبنان، لكن في اللحظات الصعبة، حين اندلعت الأحداث، هبّ كثير كثير من هؤلاء للدفاع عن الأرض. صحيح أن وسائل السفر يومها لم تكن سهلة كما هي اليوم، لكن، يفترض اليوم أن يعرف الشباب الذين يشعرون بالإحباط أنه لولا أجدادهم وآباؤهم لما بقي لبنان الذي يريدون ويستحق أن نكون على اسمه. ودور القيادات اليوم تعزيز أدبيات اللاإستسلام. ويستطرد: لو بقي بشير حياً وطبّق البرنامج الذي وضعناه لما حصل ربما ما يحصل اليوم. ولو طبقت الفيدرالية ربما لكانت كل جهة تشعر اليوم أنها سيدة نفسها”.
لا يرغب أنطوان نجم في استخدام عبارة المقاومة المسيحية ويفضل بدلا منها إستخدام عبارة مقاومة المسيحيين ويقول: “المسيحيون ملزمون ضميريا بالمقاومة. ففي العامين 1958 و1975 لم يقاوم المسيحيون لأنهم مسيحيون بل كي يبقوا في هذا البلد. والشهيد هو الذي بإرادته جاهز لتقديم نفسه شهيدا كي ينقذ أقرانه. وأنا أتذكرهم دائما وأبكي. هؤلاء كانوا واعين تماما ماذا يفعلون وباسم هذا الوعي اقتحموا الخطر. ومن يقول ويردد اليوم أنه لو عاد الى الوراء لحمل نفسه وهاجر لن يفعل ذلك حتماً. الكلام الذي نسمعه غير صحيح ابداً وإذا اضطر سيعود ويحمل بندقيته ويدافع. ثمة شيء ما، ثمة شعور راسخ ما، عند الموارنة والمسيحيين بوجوب عدم خسارة الأرض. هذا هو الوعي الإرادي. ثمة شهداء بكامل وعيهم هم شهداء المقاومة من المسيحيين.
هل اختلفت المقاومة المسيحية مع مرور الوقت؟
يجزم أنطوان نجم أن المقاومة تستمر “فسابقاً كنا نرى مقاومين “ختياريي” على الجبهات. فكل من تدعوه الحاجة سيقاوم حتى لو سمعنا منه اليوم أنه لن يفعل.
ماذا عن المقاوم بشير الجميل؟ يجيب “هيدا خيي” ويتابع بصوت متهدج “دخيل الله كان يقف بشير أمام قبر الشهيد بكل كيانه. ويومياً أصلي له ولكل الشهداء وأذكر لبنان مئة مرة”. وراء أنطوان نجم لوحة كتب عليها “إيمان وعهد” يقرأها ليل نهار: “أنا المسيحي، إبن هذا الشرق، المتجذر فيه المعبّر في حضوري عن بقاء المسيحية الحرة وعن الشهادة للربّ المتجسد ولتعليمه وتدبيره الخلاصي، أؤمن بأن لبنان وطن نهائي قائم على إرادتي مسيحييه ومسلميه الحرتين (…) وأتعهد رفضي ادعاء أي كان إختزال قيادة المجتمع بشخصه. فلنتوقف عن التصفيق الساذج ولننتفض. فلنتحرر من طغيان الفهارير”. هو قسمه منذ نيسان 2006.
هناك في طبرية، في غابة أرز الشهيد، حيث نشعر بأننا نقترب من السماء، لوحة قد تنشلنا اليوم من حال الإستسلام: “بشهادتنا رسمنا دروب المجد لأحفادنا”.
لكن، هناك أولاد شهداء وأمهات شهداء وزوجات شهداء ورفاق شهداء يسمعون اليوم وكأن هناك شهداء بالزيت وآخرين بالسمن. هؤلاء يسمعون من يتكلم عن شهدائه معتبراً “أنهم ولا أحد سواهم”. فهل عدم الإعتراف المتبادل معناه أن المصالحة الحقيقية لم تتحقق؟ واضح أن هناك فئة تتصرف بإصرار، وبمنهجية مستمرة، على قاعدة “غالب ومغلوب”، كما تلك المنهجية التي مورست بعيد العام 1990 بفعل الإحتلال السوري، واستمرت بعد العام 2005 بفعل سلاح “حزب الله”. إصرار هؤلاء على “تقزيم” الشهادة المسيحية متصل بواقع ان هناك فريقاً سياسياً لا يريد طيّ صفحة الحرب ويواصلها بأشكال مختلفة من أجل أن تسود وجهة نظره ويتحكم بالقرار السياسي اللبناني. إصرار هؤلاء على تظهير “مقاومتهم” وشيطنة مقاومة الآخرين مسألة غاية في الخطورة تشي بوجود فريق يصرّ على اعتبار أن وجهة نظره على حق ووجهة نظر سواه خاطئة. عدم الإعتراف، عن قصد، بشهادة من واجهوا السوري المحتلّ ببسالة قلّ نظيرها، معناه وجود فريق لا يرغب في الإعتراف بوجود فريق سياسي آخر سواه في البلد. ومعنى ذلك أيضا أن هناك من لا يريد تأسيس بلد مع هذا الفريق وشراكة ومصالحة في الوطن.
السوري هو من عمل على تغييب الشهادة المسيحية المتمثلة بالمقاومة اللبنانية وكل تضحياتها وأدبياتها ورؤيتها. وهو الذي سعى، مع ورثته، الى إرساء مفاهيم جديدة ومصطلحات جديدة وأدبيات جديدة للبنان تختلف عن الفكرة اللبنانية الأصلية. هو أراد، ولا يزال، إلغاء كل فريق لا يشبهه ولا يرضى بجعل لبنان رهينة أهوائه. ثمة من يريد تغيير وجه لبنان وطبيعي أن يبدأ ذلك في عدم الإعتراف بمن استشهدوا من أجل قيام الدولة اللبنانية.
انتهت الحرب (مبدئيا) في العام 1990، والمصالحة كانت تستدعي طيّ صفحة الحرب والتأسيس للبنان الدولة. لكن، الصفحة لم تطو والتأسيس لم يتحقق ولا تزال الحرب مستمرة بأشكال أخرى.
أعطت المسيحية منذ فجر التكوين شهداء كباراً. القديسة تقلا شهيدة. القديس أسطفان شهيد. بطاركة ورهبان وشباب مسيحي آمنوا بقضية انضموا كلهم شهداء الى القافلة الطويلة الطويلة. وهؤلاء الشهداء طبعاً لا يموتون. الشهادة تراث مسيحي. انها افتداء بموجب وحدوية الكينونة. الناس الذين يموتون فداء عن الآخرين يعبّرون عن قمة في المحبة “فما من حب أعظم من أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه”. هذه هي الشهادة في المسيحية. فكرة أن يقدّم الإنسان حياته بكل وعيه وإرادته، وبكل الحب، فداء عن الآخرين، عظيمة. وفي أيلول، مع عبق هذا الشهر، مع بيلسان أيلول وفلسفة الطبيعة، تشتد الصلوات عن راحة أنفس الشهداء. وفي أيلول هذا، شهداء السماء مطالبون بالصلاة لشهداء الأرض. فالصلاة تجوز على الأحياء أيضا.